ليتني أنسى، ليتني أسلو، ليتني أمشي في طريقي دون النظر يمنة ويسرة.. هكذا أتغنى في أوقات أخلو فيها مع نفسي، أتأمل ما كان وما قد يكون وما هو كائن، فالحلقة التي ولدت وهي دائرة ما زالت على حالها، وما زال بعضنا يحلم، ولا يسعى لتحقيق أحلامه، ما زال بعضنا يرقص على جروحنا، وما زال يشجب ويصرخ.. يهادن ويستسلم، ينحني لمن هو دوننا، يهادنه، يجامله، يسترضيه! وما زال هناك من يعمل، ولو وخط الشيب رأسه، ما زال ينتج، وما زال يفكر، وما زالت أعضاؤه تتحرك نحو خط أمثل، وغد أجمل، وما زال حيا يرزق، فعقله نيّر، وقلبه ينبض، ورأسه صامد يفكر.

وما زال هذا وذاك يحنّ للماضي الذي لم يره ولم يعش أيامه، للماضي الذي يشدو صوتنا بأمجاده، وبرجاله ونسائه، وما زلنا نشفق على أبنائنا وبناتنا من غد مشوش الملامح، فالعالم من حولنا متغير، وتغيره غير واضح المعالم، فاليوم قد نراه ضاحكا مستبشرا، وغدا مكفهر الوجه والملامح، وبعد غد قد نراه مهادنا مسالما، وفي لحظة سهو قد تصيبنا ضربة غدر من حليف غادر.. وبالتالي فالحذر ملزم لنا ولغيرنا.

أما فتح الملفات القديمة أمام أبنائنا وعدم إخفاء الزوايا المضيئة والمظلمة في هذا العالم المتقلب فأمر واجب، تحذيرهم ورفع الغشاوة عن أبصارهم وتوعيتهم بالحقائق والتحدث معهم، تدبّر أفكارهم تقديرهم وتقبيلهم واحتضانهم، وقبل هذا وذاك احترامهم والوقوف تمجيدا لهم ولقدراتهم أمر واجب، فنجاحهم لا يعني انزواءنا بل تكملة لمسيرتنا، وتفوقهم لا يعني فشلنا بل إبداعنا، فلنفسح المجال لهم ولنصفق لإنجازهم، ولنتذكر أيامنا الخوالي، يوم كنا نسعى جاهدين ليسمع صوتنا، وكيف كانت الأبواب تصفق خلفنا، وكيف ثبتنا وواجهنا وطالبنا، وكيف استقبلنا أناس فتحوا قلوبهم وعقولهم لنا، وكيف تركوا بصمات واضحة في حياتنا.. أفراد ما زلنا نحمل لهم في نفوسنا الكثير والكثير من الامتنان والتقدير، وما زلنا نعترف بفضلهم على مسيرة طالت أو قصرت، وما زلنا نذكرهم في دعواتنا في السر والعلن.

بعض شبابنا مع الأسف قد يفتقد الحماس، وبعضهم قد يكون حماسه مبالغا فيه، إلا أن هناك فئة لا يستهان بها تحدد أفكارها وتوجهاتها وتخطط لحياتها، وتتحرك وفق ذلك، وإذا استلزم الأمر قد تلجأ لخطط طارئة فلا تتوقف ولا تنهزم. وكل هؤلاء بحاجة لخبراتنا، كما نحن بحاجة لصمودهم وعنفوانهم وحتى حماسهم. وحاجتهم لدعمنا لا تقل عن حاجتنا لهم ولو أنكرنا أو حجمنا أو تجاهلنا. إنهم امتدادنا الذي نأمل أن يحقق ما عجزنا نحن عن تحقيقه، إنهم المستقبل الذي نأمل ألا ينتهي بموتنا، إنهم الوطن الذي نحب ونعشق، إنهم حماة وطننا ونموه وتقدمه، إنهم رجاله ونساؤه، إنهم الأمل الذي نحيا بعد الله سبحانه به وله، إنهم الغد المشرق بإذن الله سبحانه، إنهم الأمانة التي سنسأل عنها عاجلا أم آجلا.

هل يليق أن أحكي قصة شبابي هنا.. وكيف قاومت السقوط، وكيف تماسكت وكيف ثابرت وكيف آمنت بقدراتي؟ هل يليق بي أن أتحدث عمن مد يده لي فساندني بعد المولى سبحانه، ووقف بجانبي، وأفسح لي المجال لأكمل مسيرتي، ومن مسح دموعي في لحظة يأس، وكيف شجب ضعفي، وكيف نهرني ووجهني؟ لا أعتقد أن هذا المكان مناسب، إلا أنني أعلن أنني لم أكن لأكون اليوم بينكم، لو لم يسخّر لي الله بعظيم فضله وكرمه رجالا أفاضل طوقوني بفضلهم، رجالا وجدت فيهم الدعم والمساندة، فجزاهم الله عني خير الجزاء.. ذاك الدعم الذي لو استمر في تدفقه ونال الشباب منه ما نلت لأنجزوا ضعف ما أنجزت أنا وأمثالي، بل وأكثر، والواقع المشاهد يؤكد ذلك.

أحمد المولى سبحانه أن من بيننا أفرادا ومؤسسات حكومية و شركات خاصة همها الأول دعم شبابنا. وعلى كثرتها إلا أن أثرها غير واضح بالشكل الكافي، فليتها تقف على منابر الجامعات والنوادي الرياضية.. تعلن عن هويتها واهتماماتها، وتخفض من شروطها وتسهل استقطاب شبابنا. ليتها تكثف نشاطها الإعلامي والإعلاني، ليتها تنفق وبسخاء ليصل صوتها لشبابنا، الذي يريده البعض متمردا كارها رافضا لدينه ولوطنه ولتراثه.

ولنكن واقعيين.. شبابنا سينفر عاجلا غير آجل لو لم نتدارك الأمر ونمد لهم أيدينا ونسمع صوتهم ونسمعهم أصوتنا، فذاك المتربص بهم فهم اللعبة الإعلامية وأسرارها وتعامل معها بحرفية عالية جاذبة غير منفرة، تواضع واستوعب نفوس شبابنا ولامس طموحاتهم وقدراتهم واهتم بأهوائهم فأغوى بعضهم وأضلهم، في حين امتهن بعضنا توجيه اللوم والتهم الباطلة منها والصائبة، نسينا أو تناسينا من نحن ومن كنا.. فهم الضالون المضلون ونحن الصالحون المصلحون.!

ولنكن صادقين.. كم منا جلس وتحدث أمام أبنائه وبناته عن زلات وعن سقطات عرفها أكثر من غيره، لأنها لامسته ولامسها؟ كم منا تحدث عن إهماله وعن تمرده أيام شبابه.. أم إن الواجب يحتم الستر، أم إن كافة الآباء والأمهات والمعلمين والمعلمات كانوا مثاليين ومجتهدين؟

لا أطلب التحدث عن كافة الدقائق في إهمالنا لواجباتنا ولتوجيهات الآباء والأمهات، ولكن الواجب يحتم علينا عدم إعطاء صورة غير حقيقية عنا لأبنائنا وبناتنا، فذلك يوسع الهوة بيننا ويبعدهم عنا ويصورهم على أنهم بشر وأنهم يصيبون ويخطئون... أما نحن فملائكة منزهون.

قد لا نعايش ونشهد كافة إنجازات شبابنا، إلا أن الواجب يحتم علينا تمهيد الطريق لهم وتوجيههم وسماع آرائهم واحترامهم، فهم المستقبل ونحن لا محالة الماضي الذي نأمل أن يذكر بخير.. الماضي الذي نأمل أن يكون مشرفا ومصدر فخر.. ماضٍ لا ينزّه نفسه ولا يتبتّل ويتجمّد.. ماضٍ منتج ومشرف لأبنائنا وأحفادنا .. ودمتم في حفظ الله.