للتستر التجاري أشكال وأنماط مختلفة، ومن أبسط صوره تستر بعض المواطنين على مجموعة من العمالة الوافدة في الورش والمطاعم والمدارس ومحلات بيع التجزئة (الملابس والمواد الغذائية)، وهذه هي الصورة السائدة لمعظم الناس في المملكة.
والصورة السابقة للتستر التجاري انعكست بصورة غير مباشرة على نصوص مواد نظام مكافحة التستر ولائحته التنفيذية، إذ نجد مصطلحات في النظام تدل على هذه الصورة البسيطة مثل (محال) و(مجموعة أشخاص)، كما أن أغلب النقاشات والكتابات حول هذه الظاهرة لم تخرج عن هذه الصورة.
وعلى هذا الأساس كانت الحلول المطروحة لمعالجة هذه المشكلة من قبل بعض الاقتصاديين أن تكون في "إطار نظام الاستثمار الأجنبي المشترك" بحيث تكون هناك منشآت ومحال تجارية مملوكة للمواطن والأجنبي معاً وفق الأنظمة والتعليمات، وبالتالي التغلب على "مشكلات الكفيل، تجارة التأشيرات، ضياع حقوق المواطن والأجنبي، ضياع حقوق الدولة" وليس هذا فحسب، بل أيضاً حل لـ"مشكلات رداءة الجودة (في السلع والخدمات)، وارتفاع الأسعار، وضياع حقوق المستهلكين".
لذا طالب بعض هيئة الاستثمار في أن تتساهل في شروط منح التراخيص للاستثمارات الأجنبية المشتركة في الأعمال الصغيرة والمتوسطة، وإعطاء حوافز أكثر لمثل هذا النوع من الاستثمارات، ولكن ماذا لو علمنا أن الاستثمار الأجنبي نفسه أصبح أحد أسباب ظاهرة التستر التجاري وبمبالغ ومخاطر تفوق التستر السائد بصورته البسيطة!
قبل شهرين، اعتمد محافظ هيئة الاستثمار اللائحة الجديدة (المعدلة) للنظر في مخالفات أحكام الاستثمار الأجنبي والجزاءات، وقواعد نظرها، وحددت اللائحة المعدلة 60 مخالفة، من أبرزها: عدم التزام المستثمر بنسبة السعودة وفقا للاتفاقات الدولية وأنظمة وزارة العمل وممارسة أعمال تجارية أو خدمية غير مرخص لها من خلال موقع الشركة، بيع التأشيرات الصادرة للمنشأة على العمالة أو المنشآت، تقديم عقود وهمية لا وجود لها على أرض الواقع بالإضافة إلى عدم وجود تراخيص لفروع الشركة أو المصنع الأجنبي، تأجير العمالة المسجلة على كفالة المشروع على الغير وكذلك تشغيلهم، وهذه المخالفات جميعها تتعلق بظاهرة التستر التجاري، والسؤال المطروح هنا: ما هو السبب الذي جعل هيئة الاستثمار تقوم بتعديل لائحة المخالفات؟
في الحقيقة، المخالفات السابقة هي مخالفات ظهرت على أرض الواقع كشفتها الأجهزة الرقابية المختصة، وبالتالي انعكست على اللائحة بشكل مباشر، والواضح أن الهيئة تعاني من ضعف رقابي في الإشراف والمتابعة الميدانية لمنشآت المستثمرين الأجانب، ويبدو أنها تكتفي فقط بالمراجعة والتدقيق المكتبي للمستندات الخاصة بالاستثمار الأجنبي مثل القوائم المالية والمصادق عليها من قبل محاسب قانوني تحت الطلب (ميزانيات مضللة)! والهيئة مسؤولة عن متابعة المستثمرين بصفتها الجهة المسؤولة عن إصدار تراخيص الاستثمار.
ولبيان وتوضيح أساليب بعض المستثمرين الأجانب في التحايل على نظام الاستثمار واستغلال الحوافز الممنوحة لهم في التستر التجاري، أطرح حالة واقعية تحصل في كثير من المشاريع الحكومية للأسف الشديد.
فكما نعلم تقوم بعض الشركات الوطنية بالحصول على عقود وصفقات لمشاريع حكومية بمئات الملايين من الريالات، ثم تقوم بالتنازل عن أعمال هذه العقود لمقاولين آخرين، وهي مؤسسات وهمية غير موجودة على أرض الواقع سوى في السجلات والوثائق، وهذا التنازل يكون تحت مظلة (مقاولين من الباطن) أو الاستناد على المادة (47) من اللائحة التنفيذية لنظام المنافسات والمشتريات الحكومية، وعليه يتم صرف المستحقات المالية مباشرةً لهذه المؤسسات، وبالرغم من أن الفقرة (د) من المادة (47) تنص على أن "تتوافر في المقاول المتنازل إليه شروط التعامل مع الحكومة وأن يكون مصنفاً في مجال ودرجة الأعمال المتنازل عنها"، إلا أنه تتم الموافقة على هذا التعاقد من قبل الجهات الحكومية بالرغم من عدم وجود تصنيف للمقاولين من الباطن دون أدنى مسؤولية!
وهذه المؤسسات الوهمية تكون بأسماء مواطنين وما هي إلا مؤسسات وسيطة يتم من خلالها التعاقد مع مستثمرين أجانب لإدارة المشاريع الحكومية، وبالتالي استطاع المستثمر الأجنبي الحصول على عقد المشروع الحكومي وهو غير مصرّح له بذلك علماً بأن مثل هؤلاء المستثمرين يكون لهم مقرات ومكاتب للتمويه فقط حيث لا يمارسون أعمالاً متعلقة بترخيص الاستثمار الذي حصلوا عليه.
ومن أوجه استغلال حوافز الاستثمار الأجنبي: الحصول على تأشيرات استقدام عمالة أجنبية ثم إعارتها أو بيع التأشيرات إلى مؤسسات وشركات أخرى، بالإضافة إلى الالتفاف على خطط الدولة في توطين الوظائف، والحصول أيضاً على قروض تمويلية من خلال عقود وصفقات وهمية.
لا أحد ينكر أن الهيئة العامة للاستثمار تعمل على تطوير بيئة الاستثمار وزيادة معدلاته، لكونه ركيزة أساسية للتنمية المستدامة وتنويع القاعدة الاقتصادية، لذا قدمت كثيرا من الحوافز والتسهيلات للاستثمارات الأجنبية، كما تعمل على تذليل المعوقات والصعوبات التي تواجه المستثمرين، ولكن في الوقت ذاته أخفقت في إيجاد آليات فاعلة في متابعة الأداء الاستثماري وتقويمه.
لا شك أن الجميع في صف وجود تسهيلات وحوافز أكثر للاستثمار الوطني والأجنبي لانعكاسه الإيجابي على الاقتصاد الوطني سواء في وجود سلع وخدمات ذات جودة عالية ووجود أسعار تنافسية ناهيك عن الإيجابيات الأخرى مثل توطين الوظائف والمساهمة في الحد من البطالة ونقل الخبرة والتقنية، ولكن هناك من يستغل هذه التسهيلات في أعمال غير مشروعة والتي منها "التستر" في ظل ضعف الرقابة والاستثمار، وبالتالي عدم تحقيق الأهداف المطلوبة من الاستثمار، والهيئة مطالبة بالعمل على تحقيق التوازن بين الحوافز والتسهيلات الممنوحة للمستثمرين وبين وجود رقابة فاعلة، ليس هدفها ضبط المخالفات كغاية رئيسة وإنما لتصحيح مسار الاستثمار الأجنبي وتقويمه، بحيث لا تكون هذه الرقابة مربكة وعائقة للمستثمرين، مع الأخذ في الاعتبار نصوص مواد نظام مكافحة التستر ولائحته التنفيذية.