الشعب الذي "انتخب" الرئيس مرسي، وزين أفراده سياراتهم وواجهات متاجرهم ومنازلهم بصوره، هو الذي يلحّ الآن على طرح سؤال عن موعد رحيل نظام حكم الإخوان الذي يتصدره مرسي.. يسأل البسطاء وأبناء الطبقات الوسطى والعليا في مصر السؤال ذاته: متى سيرحلون؟.
وقبل أن يمنحك فرصة للرد يبادر بطرح سيناريوهات للإطاحة بالإخوان، كأنها خطة بسيطة في لعبة شطرنج، بل وتستدعي الملايين الجيش بعد أن رفعوا لافتات "يسقط حكم العسكر"، واحتقنت حناجرهم بهذا الهتاف، فلما فعلها "العسكر" وسلموا السلطة لمرسي وجماعته، تبدل المزاج الشعبي في مصر.
لم يحدث هذا فجأة، بل جاء كزخات المطر إثر سلسلة من الوعود التي لم يحقق منها النظام الحاكم شيئا، فالأمن منفلت لدرجة يزعم معها المرء بأن المصريين يعيشون بالتوافق العرفي.
أما أزمات الاقتصاد فحدّث ولا حرج، والانقسام السياسي بلغ ذروته ليتجلى فيما يمكن وصفه بـ"أم المعارك"، وأقصد بها أزمة القضاء والإخوان، التي فشل مرسي وحاشيته في احتوائها، بل بلغ اليأس بالقضاة لحد التلويح بتدويل القضية أمام المحاكم الدولية، وهي الدعوة التي أثارت بدورها عاصفة من الخلافات وتبادل الاتهامات.
عندما سئل رئيس الوزراء الصيني الأسبق شو آن لاي في سبعينات القرن الماضي بشأن الدلالة التاريخية للثورة الفرنسية، رد بإجابة شهيرة، قال فيها: "إنه من السابق للأوان إدراك ذلك"، وفي ضوء هذا الحذر الحكيم، سيكون من قبيل التهور أن نتوقع ما قد تسفر عنه "أزمة الهوية" في مصر، التي تتفرع منها أزمات لا حصر لها، وتعد "معركة القضاء" إحدى تجلياتها.
تحدثت مع قضاة كثيرين، وهناك إجماع تقريبا بأن مؤسسة الرئاسة تتغول على استقلال القضاء، وتسعى لفرض قانون دون استشارة أصحاب الشأن، بل تتجاهلهم، واعتبروا أن الأمر يحمل أهدافا سياسية ليست خفية، فالإخوان بحاجة لاستقطاب القضاة؛ لأنهم سيشرفون على الانتخابات البرلمانية المقرر عقدها في وقت لاحق.
قاض شاب ممن يمكن وصفهم بجيل الثورة له آراء سياسية صريحة، فهو ـ بعيدا عن منصة القضاء ـ يمارس حقه كمواطن يُبدي رأيه في شتى أحوال البلاد، وفي هذا السياق يرى أن النظام الحاكم يصطنع ما وصفه بتمثيلية هزلية، يلعب فيها دور الكومبارس "حزب الوسط"، الذي يضم منشقين على الإخوان، لتقديم مقترح بتعديل القانون لضمان عزل ثلث أعضاء السلطة القضائية، وبعدها ستدعو جماعة الإخوان أنصارها لمليونية للإساءة للقضاء، ترفع لافتات "التطهير" المُسيئة.
مستشار رفيع المستوى لا يُخفي بدوره هواجسه من نيّة النظام اختراق القضاء عبر عملية ممنهجة، ويرى أن كل قضاة مصر لا يدافعون عن هوية مصر المدنية فحسب، بل أيضا عن مصالحهم واستقلالهم، وبعبارة حاسمة يرى القاضي أن هذه "أم المعارك"، فلو تمكن القضاة من الصمود في وجه مخطط الإخوان فقل على هذا النظام السلام؛ لأنه سيتفكك وتظهر كل عوراته، لكن لو حدث العكس فسيبقى هؤلاء يحكمون مصر لأجل غير مسمى.
ومن القضاة للساسة المؤيدين للإخوان الذين يختزلون الأزمة في وصفها بمجرد "مطالب فئوية"، وأن من حق مجلس الشورى أن يسنّ القوانين وفقا للصلاحيات الدستورية المخولة له في هذه المرحلة.
لكن يقف في الجانب الآخر معارضون يكيلون لنظام الإخوان اتهامات شتى، ويرون أنه ليست لديه نيّة جادّة للحوار مع المعارضة الحقيقية، وليست تلك المصطنعة التي تلعب دور "المُحلل"، وأن نظام مرسي لا يمتلِك رُؤية، وعاجز عن إدارة دولة بحجم مصر، بكل ما يحاصرها من أزمات، ومن ثمّ فإنه يتحرش بالمؤسسات السيادية في "الدولة العميقة" التي لم تزل مستعصية على "الأخونة" كالمنظومات الأمنية والقضائية والإعلامية، وأنه وجماعته بهذا يمهدون الطريق أمام موجة من الفوضى والعنف ستستدعي نزول الجيش "عند لحظة ما"، لكنه هذه المرة لن يعود لثكناته بالبساطة التي حدثت مع المجلس العسكري السابق.
أما المفارقة في هذا السياق، فهي أن كلا من بقايا نظام مبارك، والإخوان وحلفائهم، سيصبحون جزءا من ماضي مصر، أكثر منه جزءا من مستقبلها، والله غالب على أمره.