ربما لم يحدث أن مرت المملكة العربية السعودية خلال تاريخها بمثل هذه الفترة من البناء والتشييد.. حركة واسعة في كل مكان، أخبار الوزارات تتصدر الصحف يوميا، وافتتاح مستمر لمئات المشروعات من أقصى المملكة إلى أقصاها، وسط ضخ هائل من المليارات والسعي لتعديل كل الأخطاء وتلافي مختلف أوجه القصور في الخدمات وفي البنى التحتية. كل القطاعات تعيش واقعا متجددا تلخصه حالة البناء والتشييد والتدشين لمشروعات تكاد تغطي مختلف جوانب الحياة العامة: في الطرق وفي التعليم وفي الصحة وفي التعليم العالي وفي العدل وفي الإعلام وفي العمل وفي الأمن وفي القوات المسلحة وفي الزراعة وفي مختلف الخدمات.. هذا واقع مدهش للغاية، وهذه نتائج حقيقية لمتطلبات الحاضر والمستقبل.. زيادة مطردة في أعداد السكان، واتساع في نطاق المدن وفي الطلب على مختلف الخدمات.
حان الوقت إذن لنفكر فيما بعد نشوة الافتتاح إلى التفكير في الكيفية التي تتحول بها تلك المشروعات إلى مشروعات دائمة ومستمرة وقادرة على البقاء والتجدد، والحفاظ على ما تقدمه من خدمات وما تؤديه من دور في التنمية. المشروعات الحالية تؤكد أننا يجب أن نتحول من مرحلة التنمية النمطية إلى التنمية النوعية والمستمرة، فالتحدي ليس في افتتاح جامعة أو مستشفى أو نفق جديد، لكن التحدي الحقيقي يكمن في استمراره بذات الجودة وذات المستوى من الخدمة، هذا قد يبدو للوهلة الأولى سهلا وعقود الصيانة الدورية يمكن أن تقوم بالغرض.
هنا لا بد من التوقف مليا، فكل عقود الصيانة في الغالب ترتفع أسعارها عاما بعد عام، نظرا لما يطرأ من ارتفاع مستمر في الأسعار وفي الخدمات وفي الأيدي العاملة. ومن البديهي أن نضع في أذهاننا احتمال أن يأتي يوم يتم فيه توجيه نصيب كبير من ميزانيات بعض الوزارات لسداد المبالغ الطائلة التي تستلزمها عقود الصيانة. بالمقابل تكاد الدولة تقف دائما في وجه كل فكرة تنادي بفرض رسوم على الخدمات، إذن نحن أمام تحد حقيقي، وخاصة في المنشآت الخدمية العامة. وإذا ما نظرنا إلى نماذج للمرافق العامة فسنجد أن كثيرا من الإهمال ينجم عن سوء الاستخدام، وهو ما يعكس الحاجة إما إلى وضع رسوم مقننة أو إجراءات تكفل سلامة تلك المنشآت، مع محاولة الاستفادة من تحويل الصيانة والتشغيل إلى أجهزة داخلية في كل منشأة، والسعي لاعتماد التقنيات الحديثة في ذلك.
التحدي الآخر الذي نواجهه ونحن نحتفي بكل هذه المشروعات العملاقة يتمثل في الأيدي العاملة والكوادر التي تديرها. الصورة النمطية لدينا أن من يقبع داخل المكاتب هم السعوديون، بينما في مختلف المرافق وخاصة في القطاعات ذات الخدمات المتخصصة تكاد تكون اليد العاملة الأجنبية حاضرة وبقوة. الانتصار التنموي الحقيقي لا يتمثل في أننا بأموالنا نبني اقتصادنا، لكن أن نبنيه بأموالنا وبأيدينا وسواعدنا الوطنية أيضا.
كلنا ندرك أن حجم الاحتياج في مختلف الوظائف سيتضاعف باستمرار تبعا للاتساع الهائل في حجم العمل الذي ستخلقه هذه المشروعات، مقارنة مع واقع التأهيل والتدريب الذي لا يزال محدودا، مما يعني أن النجاح الفعلي لمستقبل التنمية لا يمكن أن يتحقق إلا بدعم وتوسيع وتنويع مؤسسات ومراكز وكليات التدريب والتأهيل، والعمل كذلك على توجيه مخرجات التعليم الجامعي باتجاه ما يحتاج إليه المستقبل بما يلبي كل التحولات والتطورات النوعية الآن في الاقتصاد السعودي.