عطفاً على لقاء الأمير تركي الفيصل في واجه الصحافة، والسؤالين المحوريين اللذين طُرحا حول السياسة الخارجية للمملكة "كيف يُمكن للمملكة أن تـُمارس نفوذها؟" و"كيف يمكن استثمار الأوراق في مسارح الصراع؟". السؤالان يعكسان حقيقة الجدل الفكري القائم بين النخب الثقافية والسياسية اليوم في المملكة، حول نهج السياسة الخارجية للمملكة. فالأحداث والتغـّيرات المتوالية، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، تمخضت عنها ولادة - أو على الأقل إرهاصات ولادة – مدرسة فكرية جديدة تحمل أنموذجاً مُبايناً للمدرسة "الكلاسيكية" للسياسة الخارجية السعودية.وبين المدرسة "الكلاسيكية" أو "المحافظة" والمدرسة الجديدة – التي نـُطلق عليها تجاوزاً "المحافظة الجديدة" ـ نقاط التقاء وافتراق. ولعل كلتا المدرستين تنطلقان من رؤية مشتركة مفادها أن المملكة قوة إقليمية لديها عدد من أسباب القوة، ويتفقان أيضاً على أن أسباب القوة هذه لا يجب العمل على استبدالها. والخطاب القائم هو خطاب تكميلي يدعو لإضافة أسباب اقتصادية أخرى للقوة بجانب النفط. ومن هذا المنطلق تـُصبح السياسة الخارجية بالنسبة للمملكة هي آلية استخدام أسباب القوة التي تحملها. هذا الأمر يـُسبب بالتالي حساسية بالغة نحو أي تعديل في منهجية صناعة وفعل السياسة الخارجية السعودية.
وهنا تبرز نقطة الافتراق بين المدرستين، اللتين تختلفان على تعريف مفهوم "الرصيد السياسي" الذي يـُؤدي لقوة السياسة الخارجية للمملكة وبالتالي "الرصيد السياسي" الذي ينتج أيضاً بالتبعية عن استخدام تلك القوة، وبالتالي فهما تؤّلان استخدامات هذا الرصيد السياسي بشكل متباين، وتقفان موقفاً متبايناً أيضا من كيفية التعامل معه. ولتبسيط المواقف تجاه مسألة الرصيد السياسي يمكن تشبيه موقف "المدرسة الكلاسيكية" منه على أنه رصيد ادخاري، مُشابه للرصيد المالي في البنوك، ومن ثم فإن كل خطوة من شأنها أن تزيد من الرصيد السياسي إنما تـُضاف لما قبلها، وبالتالي يـُتيح ميزان الصرف والادخار لمثل هذا الرصيد من تقييم موقفه، وبالتالي معرفة ميزان الأرباح والخسائر، التي تـُحدّد بدورها القدرة على الفعل السياسي. من هذا المنطلق يتضح سعي المدرسة الكلاسيكية نحو تبني سياسات تهدف – مجازاً – للعمل على زيادة الأرصدة، كقيام المملكة بتقديم الكثير من الدعم المالي للعديد من الدول العربية، وكذلك تبنّي مواقف معينة تـُمثل نقاطاً تُسجل لصالح المملكة في سياستها الخارجية.
في مقابل هذا المفهوم تقف "مدرسة المحافظين الجدد السعوديين" موقفاً يُعرّف الرصيد السياسي – كمثال – على أنه رصيد تجاري مُشابه لرأس المال العامل لدى الشركات. وما يتيح القدرة على الفعل السياسي إنما هو حجم هذا الرصيد الذي يجب أن يظل في دورته الاقتصادية. فالسياسة الخارجية في هذا المثال تتحول إلى حركة تجارية، ومن ثم فإن الأنشط في السوق هو الأقدر على الحصول على تمويل ودعم لعملياته التجارية، وبالتالي يـُصبح هو الأقدر على الفعل. وفي الحركة التجارية يصبح رأس المال غير المستخدم عبئاً إذ إنه عرضة للتضخم وغيره من العوامل. فالمال لا بد أن يظل في حركة مستمرة، وتماماً كذلك، يصبح الرصيد السياسي غير المستخدم بالنسبة للمحافظين الجدد السعوديين عبئاً إذا لم يتم باستمرار استخدامه في دورة الفعل السياسي. فبتعبير النظرية الأمريكية الشهيرة "أنت بحاجة لصرف الرصيد السياسي لكي تحصل على رصيد سياسي".
ولعل مبادرة الملك عبدالله للسلام يمكن أن تكون مثالاً على موقف الطرفين من مسألة الرصيد السياسي، فـ"المدرسة الكلاسيكية" ترى أن السياسة الخارجية السعودية اعتمدت على الرصيد الادخاري الكبير للمملكة في الدفع نحو تبني العرب للمبادرة، وأن قبول العرب للمبادرة نفسها ولـّد رصيداً سياسياً جديداً يضاف للأرصدة القائمة، وبالتالي فإن هذا التوجه نحو زيادة الرصيد بخطوات سيتولـّد عنه توجه معين للسياسة الخارجية (فالحساب ثابت وادخاري لا ينقص إلا بصرفه). في المقابل ترى "مدرسة المحافظين السعوديين الجدد" أن خطوة المبادرة في حد ذاتها، لما تحمله من دلالات (كانت كخطوة تجارية بحسب المثال أعلاه) ولـّدت رصيداً عاملاً (في السوق)، وبالتالي فإن جمود المبادرة عن الحركة في الفترة الراهنة، نظراً للسياسة الإسرائيلية، إنما (يأكل) من هذا الرصيد (الذي يحتاج للحركة والتبادل التجاري). من هذا المنطلق سيتولـّد لدى المحافظين الجدد توجـّه مُغاير للسياسة الخارجية يعتمد على زيادة حجم الحركة، وبالتالي ازدياد حجم التجارة ككل (فالحساب تزداد أرصدته بالحركة). وبالعودة إلى السؤالين أعلاه: "كيف يُمكن للمملكة أن تُمارس نفوذها؟" و"كيف يُمكن استثمار الأوراق في مسارح الصراع؟" فإن الإجابة لن تكون اختلافاً حول مواقف وسياسات معينة وإنما اختلاف بين "مدارس فكرية" حول التوجهات الأساسية للسياسة الخارجية. ولعل السنوات القادمة تكون مليئة بكثير من الجدال الفكري بين النخبة السياسية كلما ازداد عدد مؤيدي المدرسة الجديدة.