"البيروقراطية هي العنصر القاتل في نهضة أي بلد".
قائل هذه العبارة هو علي بابا جان، نائب رئيس وزراء تركيا، قال لنا هذه العبارة في منتدى جدة الاقتصادي الثالث عشر، وهو يستعرض تجربة تركيا في القضاء على أزمة السكن، ونصحنا بتقديم التسهيلات للقطاع الخاص، وتخليص البلد من البيرواقراطية إن أردنا حلّ أزمة السكن لدينا، متباهيا بستة ملايين وحدة سكنية أنشأتها حكومة إردوغان في سنوات قليلة.
"أرض وقرض" التي يبشّر بها وزيرنا للإسكان د. شويش الضويحي، لن تحل لنا أزمة السكن إطلاقا، فرجل خبير كالدكتور مجدي حريري عضو مجلس الشورى السعودي السابق، والمتخصص في السكن والإسكان، بحكم دراساته العليا في بريطانيا بهذا التخصص، يقول لنا إن المعادلة مقلوبة لدينا في السعودية. ففي كل العالم، يقوم القطاع الخاص وشركات المقاولات العامة، ببناء أحياء سكنية متكاملة الخدمات، ويأتي المواطن ويأخذ وحدته السكنية في مشروع راقٍ ومميّز، ولكننا في السعودية قلبنا المعادلة؛ فحوالي 95% من أعمال البناء يقوم به المواطن، الذي يتحول لمقاول، لذلك يمتد عمر الحي السكني لأربعين عاما في البناء, فتكثر فيه الحفريات والضوضاء والعمالة الداخلة والخارجة للحيّ.
من المفترض على وزارة الإسكان، الاتجاه الفوري تجاه الشريحة التي تستحق السكن فعلا، وأقصد بهم الطبقات الفقيرة، عبر إنشاء المجمعات السكنية المتكاملة الخدمات لهم، مازجين بين تجربة تركيا هناك، وبين تجارب ناجحة لدينا، في مسألة الإسكان الميسّر.
بعيدا عن التنظير والأماني، أقدّم هنا لمعالي وزير الإسكان، تجربة نموذجية محلية حديثة، لو قام خبراء الوزارة بدراستها وتطويرها، ومن ثمّ تعميمها على مدن المملكة؛ لأفلحنا خلال سنتين في حلّ أزمة السكن بحوالي 70%، لأن هذا المشروع الذي أتحدث عنه، منجزٌ على أرض الواقع، واستغرق فعلياً عاما ونصف العام فقط.
شقة في مكة المكرمة مكوّنة من خمس غرف وثلاثة حمامات وصوالين، تباع بحوالي 250 ألف ريال، وهناك وحدات أقل بـ 160 ألف ريال فقط وبأقساط ميسرة، داخل مشروع سكني فاخر، ومجهز بأعلى التجهيزات، وبتشطيبات فوق المتوسط، جديرة بلفت أنظار كثير من الباحثين عن السكن، والمشروع ـ يا سادة ـ في مكة التي تعتبر من أغلى المدن على الإطلاق.
فكرة المشروع السكني بدأها الدكتور أسامة البار أمين العاصمة المقدسة، وأدخل في المشروع القطاع الحكومي مع القطاع الخاص مع القطاع الثالث، وهذا الأخير المقصود به، الجمعيات الخيرية، والمؤسسات غير الربحية، ومؤسسات المجتمع المدني.
الأمير خالد الفيصل افتتح أولى الوحدات الأسبوع الماضي وسلّم النساء الأرامل والمطلقات مفاتيح وحداتهن السكنية، حيث استهدف المشروع بالإضافة لهن، الشباب حديثي الزواج، والطبقات الفقيرة أيضا، وأولئك الذين خرجوا من تلك البيوت الشعبية بسبب توسعات الحرم، وبالطبع لم ينسوا الطبقة المتوسطة، فقد خصصوا لهم وحدات خاصة، ونحن هنا نتحدث عن 2300 وحدة سكنية، تبعد 14 كيلو مترا عن الحرم المكي، أنجزت خلال سنة ونصف السنة فقط.
الأرض كلفت حوالي 80 مليون ريال، وتكاليف البنى التحتية 150 مليون ريال، فتصوروا لو استنسخنا التجربة التركية هنا في أمثال هذا المشروع، وأخذت الدولة على عاتقها، منح الأرض مجانا، وتقديم هذه الخدمات، من كهرباء ومياه وهاتف وسفلتة وإنارة، لنزل سعر الوحدات مباشرة حوالي 30%، وبيعت الوحدات السكنية ب110ـ ألف ريال ، و200 ألف ريال للوحدة الكبيرة.
كان ثمة ما يعتلج بنفسي، وأنا أهمهم همهمة الكهنة، إذ والله لو أقسموا أغلظ الإيمان، لن أصدق رجال أعمالنا هؤلاء أن الوطنية تلبستهم، فهم أطمع الناس، وأكثرهم جشعا، ولا يفعلون هذا لوجه الله -إلا من رحمه ربنا تعالى- فبادرت د. حريري وهو يستعرض هذه التجربة الرائدة في الإسكان الميسّر، وقلت له:"سامحني، ولكن لن أصدق أن رجال الأعمال نزلت عليهم الرحمة في قلوبهم، ليردوا جميل الدولة التي مكنتهم من هذه الثروات، ويقوموا بهذا العمل الخيري، لأجل عيوننا العسلية، أين أرباحهم، وأنا أرى السعر متواضعا جدا؟". فأجابني: بالتأكيد، لن يدخل القطاع الخاص لوجه الله، هو يريد أرباحا، وربحه في تلكم الواجهات التجارية في الشوارع الكبيرة، فهي مخصصة لهم، فضلا عن أن أمانة العاصمة، لديها 20% من المشروع، فالكل رابح هنا، إن على مستوى الدولة، أو القطاع الخاص، أو المواطن".
أتمنى بشكل عاجل من معالي وزير الإسكان دراسة هذا المشروع، وتطويره، وتعميمه بشكل سريع إن أثبت جدواه، فترك الموطن البسيط يقوم بالبناء هو عبء عليه وعلى المجتمع، ولا أفضل من تسليمه وحدة سكنية في حي متكامل الخدمات، بالمدارس والمراكز الصحية، وبوسائل الترفية من حدائق وملاعب.
ربما كانت البيروقراطية في الوزارات الحكومية والفساد أهم العقبات على الإطلاق، وأستدعي هنا ما صدرت به المقالة، من تلميح الوزير التركي، فالتصاريح لا تخرج من تلكم الوزارات، إلا بعد لأي ومعاناة ورشاوى معظم الموظفين الذين بيدهم المعاملة، وأنا مسؤول عن هذا الكلام، والرشاوى تأخذ أوجها مختلفة، وليس جُعْلا ماديا فقط، فقد تكون وحدة سكنية يبتز بها، أو خدمة عقارية يقدمونها له، أو هدايا عينية، لذلك أتمنى من الوزير الاستعانة بهيئة مكافحة الفساد وديوان المراقبة العامة، وإعطاء هذه التصاريح موعدا زمنيا محددا، ليحاسب المتأخر والمماطل على تعطيله المعاملة.
أيضا تمويل هذه المشروعات من البنوك، أحد أصعب الإشكالات التي يواجهها المطورون العقاريون، فضلا عن طول الإجراءات في وزارة العدل لإصدار الصكوك، ولن نتجاوز ذلك، إلا بوضع سقف زمني محدد، يحاسبون عليه. السكن وطن، قالتها زميلتنا عائشة الشهري، فأكرموهم بالوطن.