من يزرو برلين عاصمة ألمانيا لا بد أن يزور أثر جدار برلين في قلب العاصمة التجاري ويقف على مكانه، ليرى خطاً في الأرض يبين موقع السور ويسير معه على كامل امتداده السابق، كما يرى أجزاء من السور معروضة هنا وهناك يلتقط عندها السياح الصور.
لم يكن جدار برلين الرهيب سورا خراسانيا مراقبا من العسكر المدججين بالسلاح فحسب، بل كان رمزا للتحزب، والتعصب والأدلجة، كان رمزا للحجر على الفكر وحريته، كان رمزا للوقوف في وجه حرية الاختيار والانتماء، كان هذا السور تجسيدا لما يمكن أن ينتج عن العقليات المتحجرة غير القابلة للتعايش والتطور، كان يمثل حاجة الفكر الضعيف للحواجز الحجرية ليفرض نفسه على الناس.
على الرغم من أنه كان جدارا محصنا بشكل متين حتى إن كثيرا ممن حاولوا عبوره عبروا إلى الدار الآخرة برصاص حراسه بدلا من أن يعبروه، إلا أنه كان جدارا ضعيفا لأنه بني على فكر مهترئ ضعيف، ولهذا وبمجرد أن أتيحت للناس الفرصة تمت إزالته وإزالة الفكر الذي بناه في 9 نوفمبر 1989 بعد ثمانية وعشرين عاما من بنائه.
قبل أن تبني ألمانيا الشرقية (التابعة للمعسكر الشرقي في تلك الأيام) هذا السور كان حوالي ثلاثة ملايين شخص قد فر من ألمانيا الشرقية إلى ألمانيا الغربية ما بين عام 1949 وعام 1961، وهو التاريخ الذي شرعت فيه ألمانيا الشرقية في بناء السور لتمنع مواطنيها من الهرب من الشرق إلى الغرب.
لم يكن هروب المواطنين من ألمانيا الشرقية كافيا لإقناع قادتها أنهم يهربون من منهج فكري ونظام اقتصادي بائس نحو منهج فكري آخر ونظام اقتصاي يتيح لهم ما لا يتيحه المنهج القائم في ألمانيا الشرقية، وبدلا من أن يعدل الألمان الشرقيون منهجيتهم ويستوعبوا رغبة الأتباع في الانعتاق بنوا ذلك الجدار ليكرس فكرهم وعقليتهم التي ما لبثت أن انهارت وانهار معها ذلك الجدار خلال ثمانية وعشرين عاما.
لقد كلف جدار برلين ألمانيا الشرقية ما يعادل مئة وخمسين مليون دولار (في ذلك الزمن)، واضطرت لأن تضعه على امتداد مئة وستة كيلومترات، ووضعت له ثلاثمئة نقطة تفتيش على طول السور لتمنع هروب الناس بأجسادها من ألمانيا الشرقية إلى ألمانيا الغربية، ولكن كل هذه المصاريف وكل هذه التحصينات لم تمنع الفكر من أن يعبر إلى ألمانيا الشرقية ولم يمنع أبناء ألمانيا الشرقية أن يعبروا بفكرهم وأرواحهم وآمالهم نحو ألمانيا الغربية.
هذه التكاليف التي أوردت كانت هي التكاليف الظاهرة والممكن حسابها، ولكن ثمة تكاليف أخرى أكبر وأكثر فداحة تحملتها ألمانيا الشرقية، وهي التخلف عن ركب الحضارة لمدة ثمانية وعشرين عاما، فبينما ركزت ألمانيا الغربية على أن تتعافى من آثار الحرب والدمار وعلى التطور على المستويين الإنساني والتقني وتقوية اقتصادها، ركزت ألمانيا الشرقية على تتبع الفكر المخالف ومحاولة كبحه والنيل منه، وركزت على بناء الحواجز والأسوار بدلا من بناء الإنسان وما يخدم الإنسان من بنى تحتية وتطور صناعي وتقني، تركت التطور وتفرغت للاتهام والتصنيف الفكري والأيديولوجي، فبقيت مكانها حيث توقفت الحرب، ولم تدرك ركب الحضارة والتطور حتى أزيل السور وانضمت ألمانيا الشرقية إلى ألمانيا الغربية.
الكثيرون منا في داخلهم ما يشبه قصة ألمانيا الشرقية مع ألمانيا الغربية، يفرض على نفسه أحكاما ويلزم نفسه أحوالا وأمورا بسبب فكر معين تبناه فترة من الزمن، حتى اقتنع بأنه لم يعد من المناسب أن يبقي على ذات الفكر، لكنه يبني بينه وبين نفسه سورا وهميا تساعده في بنائه بعض السلوكيات الاجتماعية القائمة لدينا، والخوف من الانتقاد وسلاح التصنيف الذي يجيد الكثيرون لدينا إشهاره في وجه كل ما يتباين مع فكرهم وإن كان صحيحا.
للجديد هيبته ورهبته لدى الفكر التقليدي وأصحاب المصالح في المحافظة عليه، فتجدهم يحاولون أن يقيموا بين الجديد وبين الناس من الحواجز والاتهامات والتصنيفات ما يشبه جدار برلين الذي سينهار حتما مادام مبنيا على أساس خاطئ، إنهم يستخدمون ذات الأسلوب الذي استخدمته قريش مع الجديد الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم، فيهاجمونه ويهاجمون أصحابه فقط لأنه يخالف ما عهدوه وإن كان أفضل منه.
في جدار برلين عبرة لكل صاحب فكر متصلب لا يواكب التطور ولا يسير مع المسار الطبيعي للتقدم مع خط الزمن، فيبني بينه وبين المجتمع، وبينه وبين مواكبة المستجدات حاجزا من المظاهر يشبه في مفعوله وطريقته جدار برلين، ويبقى بفكره أسيرا للماضي الذي لم يعد من الممكن أن يعيش معنا. لكن هذا الجدار لن يلبث أن ينهار ليجد صاحبه نفسه محتاجا لكثير من الوقت والجهد ليلحق بالركب.