بعد الجدل الكبير الذي صاحب كتاب الباحث اللبناني الراحل كمال الصليبي: "التوراة جاءت من الجزيرة العربية"، ظهر باحث لبناني آخر هو فرج الله صالح بكتابه: "اليمن وأنبياء التوراة" ، حيث يصل إلى النتيجة نفسها التي وصل لها الصليبي ولكن برؤية وأدلة مكانية أخرى منها تطبيق أسماء مدن وقرى يمنية على ما ورد في التوراة مثل مدينة "حبرون" التي دفن فيها نبي الله إبراهيم (عليه السلام) حيث يؤكد الباحث أنها تقع شمال عدن، كذلك يذهب إلى أن حصن أريحا (أريخو) بالعبرية ما زال موجودا شمال صنعاء باسم"يراخ".
الكتاب يحفل بكثير من التفاصيل والاستدلالات على المنهج الذي اتبعه "الصليبي"، ولكن الأخير يركز على اليمن كجغرافيا سياسية حالية ولم يخرج عنها إلا إلى "صور" العمانية.
وبعيدا عن مضامين الكتاب التي لا أستطيع الدخول فيها، فهذا اختصاص المؤرخين والباحثين الحقيقيين ـ لا مؤرخي "القص واللزق" الذين تكتظ بهم جامعاتنا المحلية والعربية ـ فإن ما أردت التطرق له من خلال الإشارة السابقة للكتاب، هو يقيني بأننا لسنا في حاجة إلى هجمات مرتدة ضد هؤلاء الباحثين وغيرهم ممن يطرحون أبحاثا قد يراها بعض "أكاذيب" تشكل مدخلا لاستغلال سياسي أو إيديولوجي ما. لكن أعتقد أنه يمكن النظر للأمر من زاويتين: الأولى، أن أي بحث يثير الاهتمام ويدعو للتفكر والتقصي هو مكسب للبشرية بغض النظر عن رأينا فيه، ولذلك فبدلا من التفكير في كيفية الرد عليهم، بهدف الرد فقط، يجب أن نبدأ نحن في نفض الغبار عما تسمى "مراكز البحوث" في مؤسساتنا التعليمية والثقافية، وأن تكون شروط الحصول على الدرجات العلمية لأكاديميي الجامعات (مثلا) أكثر موضوعية وعلمية من وضعها الحالي الذي قد لا يتجاوز تجميعا من هنا وهناك، ثم تفاجأ وهذا الأكاديمي أصبح "بروفيسورا" بين ليلة وضحاها.
أما الزاوية الثانية، فهي أننا بدلا من التأويل السياسي الفوري لمثل هذه الطروحات المثيرة للجدل التي تعتمد في بنائها على الآثار المادية الضاربة في عمق التاريخ البشري التي تحويها الجزيرة العربية بشكل عام، يجب أن ننظر، ماذا فعلنا نحن بتلك الآثار؟ فهل أدركنا بعد ماذا يعني أثر تاريخي؟.. وهل وصلنا إلى قناعة ويقين على أعلى المستويات السياسية والثقافية والاجتماعية، إن الآثار ليست مجرد معالم قسا عليها الزمن، وأن الاستفادة منها ليست مجرد "استعراض" أمام الآخرين بأن لدينا آثارا. وهل يدرك محاربو الآثار بحجج واهية بل ومضحكة في كثير من الأحيان ـ مثل "حجة عبادتها" ـ أن الأثر التاريخي الحقيقي قد يكون سببا من أسباب القوة أو الضعف؟
أعتقد أن من يقرأ كتابي "الصليبي" و"فرج الله صالح" سيجد إجابات على تلك الأسئلة أو بعضها.