كنز دفين، وثروة طائلة، طالما عاش الإنسان طيلة عمره يبحث عنها، وهو لا يدرك أنها بين يديه! كما أنها أيضاً كنز للوطن وكنز للأمة العربية والإسلامية. نتلقاها في لهو ومتعة ومباهاة، وأحيانا نلقي بها جانبا تتلقفها الأيدي مع هذا وذاك، ثم نبحث عنها فلا نجد إلا بقاياها! أطفال الوطن العربي إلى أين؟!

لقد كان العربي يتمايل زهوا عندما ينجب طفلاً، لأنه سيكوِّن به قبيلة فيما بعد، فنجد أن كل قبيلة من القبائل العربية والمتفرعة في شرق الدنيا وغربها من أب واحد ومن أم واحدة كما نتج عن موسوعتي الأخيرة، فهؤلاء العرب هم أصل التكوين البشري إن جاز التعبير نتيجة لخروجهم من الجزيرة العربية في تكوين قبائل وأنساب. وكان العربي عندما يبلغ ابنه السادسة فما فوق يبدأ في تدريبة على الفروسية والقنص والحكمة والبلاغة والخطابة والشعر وكل ما تتكون منه الشخصية الشامخة والمتأهلة لاتخاذ القرار والقيادة. وهكذا تكوَّن القادة والفاتحون والمفكرون والفلاسفة والعلماء العرب.

ولم تكن المرأة أقل حظا من الرجل، بل كانت هي أم لهذه القبائل وأم لأشاوس وعلماء وأنبياء وصحابة، وهو ما أفردت له مجلدا كاملا في هذه الموسوعة.

فكيف نحدد شخصية الجيل القادم وكيف نرسمها في فضاءات رحبة ليس للضعيف فيها مكان؟

وإذا ما تجولنا في أنحاء الوطن العربي على سبيل المثال لا الحصر، فسنجد أن الطفل العربي يحيا يرتضع العنف ويتنفس البارود ويكحل ناظريه كل يوم بالدماء، فها هو في فلسطين وفي سورية وفي مصر وتونس واليمن والعراق ولبنان والسودان وغيرها، وإن لم يعشها على أرضه فهو يشاهدها مع أسرته على الشاشات وهو يتناول طعامه وكأنها من مقتضيات وجبته. ونحن لا نعير ذلك أي اهتمام كونه هو الخط الأول في تشكيل الشخصية العربية القادمة التي لن تؤتي إلا جيلا غير مستو في تكوينه، ولا يتفق أي محلل نفسي على آثار إيجابية لهذا. هذا أولا. أما ثانيا فهو: أنانية الآباء والأمهات في صرف جل وقتهم بعيداً عن إعداد هذا الجيل، بجميع مفاهيم الشخصية العربية! فالمسألة لا تقتصر على المدرسة والقلم والورقة وحل والواجب ثم الدرجات والمجموع، وكأنها كل شيء، وكأنها نهاية المطاف. فالأم تدع الطفل مع المربية في بداية تكوينه ثم توكله للمدرسين لتحصيل معلومات تحشو رأسه ويحصل بها على درجات دراسية ليست هي آخر المطاف. أما الأب فهو في مجتمع صنع خصيصا له إما سمر وشلة وسمر، أو سفر وعمل وتنقلات في جهد جهيد وراء المال والأعمال. ولم ندرك أن الأهم والأدهى هو تكوين الشخصية التي هي الثروة القادمة بالفعل في هذه السن المبكرة وليس مجموع آخر العام، قد يكون عبر تكوين لا يمت للشخصية العربية وهويتها وبنائها المتفرد بأي صلة. فالرجل العربي والشخصية العربية كالحصان العربي الذي لا يمكن أن تتوافر سماته في شخصيات أخرى أنى كانت، ولقد قرأت منذ فترة عن أن بريطانيا تبذل الجهد الجهيد للحصول على جينات الحصان العربي لندرة سماته وخصاله، وذلك لأننا نحن نتاج هذه البيئة وأبناء طينتها. فنبت فينا طينها الذي امتزج بدمائنا، وبذلك تكونا وتكونت الشخصية. إلا أن أطفالنا في ظل هذا الانفتاح وفي ظل هذه التكنولوجيا قد يتكونون بطينة أخرى فتنبت فيهم خصال ليست لنا وليست نحن. وبذلك كانت أنانية الآباء والأمهات في ترك الطفل - وخاصة في فترة التكوين- للمربية وللمدرسة وفي آخر اليوم للملاهي والألعاب الكهربائية والإلكترونية، وتمر الأيام ونجد شبابا على مفترق الطرق لا يلوي على شيء سوى تحسس الخطى وربما تضيع في المفازة.

أما ثالثا فهو طفل البلاد الفقيرة: حيث ينتشر أطفال الشوارع في تشكيل طائفة اجتماعية مخيفة لها فكر وفلسفة وأخلاق لا ينطبق عليه إلا أنها قنابل موقوتة.

والمعضلة الرابعة وهي الأدهى والأمر تتجسد في عصابات تجارة الأطفال، وتجارة الأعضاء، وهي تنتشر في أرجاء الوطن العربي، ولو أنها لم تصبح ظاهرة عامة بعد، إلا أنها أصبحت تطفو على السطح. فقد يتم خطف الطفل وبالتالي تهجيره إلى دول أخرى وبيعه لأمهات أخريات أو بيع أعضائه إن لم يسعفه الحظ في النجاة. أما الإشكالية الأخيرة فهي ما يشاهده الطفل من أفلام ومسلسلات وبرامج "كارتونية" على قنوات الأطفال التي تحمل في بنيتها الدرامية الكثير من (السم في العسل) ونحن في غفلة عن أن أطفالنا يُصنعون بأيدي غيرنا ونحن نمهد الطريق!

وإذا كان البدوي يقيم خيمته على عماد، فإن عماد هذه الإشكالية هو المرأة، ولكننا نتساءل هل هي على تلك الدرجة من الوعي والإدراك بكنه الشخصية العربية ومقتضيات بنائها؟ وبطبيعة الحال فهي تحتاج بدورها إلى بناء يتمكن من بناء الشخصية التي بين أيديها، فقد كنا نتعاطى بيت الشعر - لأمير الشعراء حين قال: الأم مدرسة إذا أعددتها.. أعددت شعبا طيب الأعراق.

فاستمرأناه ومضغناه، وأصبح هذا البيت من الشعر كوجبات الـ( تيك اواي) نسمعه ونقوله ثم نلقي به جانبا كالأواني الورقية، بالرغم من أنه هو اللبنة الأولى في بناء الشخصية العربية. فتوجب بناء الأم ووضعها في محيط بيئي يليق بمكانتها هي صانعة الأجيال. فحين أقيم المؤتمر التاسع عشر للاتحاد البرلماني العربي لوضع حلول لمشاكل الطفل والمرأة تمخض عن مشكلة كبيرة عن المرأة والطفل ووضعهما في البناء الاجتماعي العربي. فتقول رئيسة لجنة شؤون المرأة والطفولة في الاتحاد البرلماني العربي، النائبة صفاء الهاشم: إن المرأة والطفل يعانيان من مشكلات «جسيمة» في المجتمعات العربية، معربة عن الأمل في أن يساهم المؤتمر في حل قضاياهما والتخفيف منها". فهل فاقد الشيء يعطيه؟!

وبذلك يظل ذلك الهاجس المخيف "أطفالنا إلى أين؟" ونحن نشاهد رساما غريبا يشكل لوحته بخطوط وأقلام وألوان من إبداعه هو. ونتساءل عن كنهها فيقال لنا إنها "الشخصية العربية الوليدة"!