لو تتبعنا حركة العلم الشرعي أو انتقال الإسلام عبر العصور الماضية، فإننا لا نجد أنه انتقل حضاريا أو شموليا، بمعنى أن تتبناه دولة أو شعب بكامله لينقله إلى آخر في الزمن الذي يليه، وإنما انتقلت تعاليمه عبر مسار ضيق يمكن تعريفه بالمسار الكتاتيبي، أي انتقل من عصر إلى عصر عبر الكتاتيب التعليمية للإسلام، ولم ينتقل من حالة عامة إسلامية إلى أخرى إسلامية، بل حتى التغير المكاني كان ضعيفا، فلا نجد الإسلام القرطبي والإسلام المشرقي، على غرار الإسلام الماليزي والإسلام الإيراني في زمننا، فالاختلافات بينها يسيرة وتظهر على أشخاص الفقهاء المنتمين لتلك الحاضنات لا غير، ولولا أثرها عليهم لما عرفناها، فكيف نقرأ فقها لا نعلم هل ألّف في العراق أم في الأندلس إلا من موطن المؤلف نفسه وسيرة حياته، في الوقت الذي نقول إن الفقه يعالج مشاكل الناس ويستمر هذا الوضع لعدة قرون.
لتوضيح الفكرة أكثر، فإننا إذا أتينا إلى عهد الخلافة الراشدة، نجد أن الأحكام الفقهية تظهر متجاورة مع السياسية ومع أحوال الناس، أي أن الحكم الفقهي يخبر عن هذه الثلاثة محاور مجتمعة، فمثلا: حينما نقول إن علي بن أبي طالب قال بتضمين الصناع، وقال لا يصلح الناس إلا هذا، فإننا نعلم من هذه العبارة أن هناك تلاعبا حدث في خلافته، وأنه اتخذ سياسة لمنعه، وأن الحكم الجديد هو أنهم يضمنون ما أفسدوه، لكن في عصور الكتاتيب التي تلته، فإن الحكم يظهر مجردا من العنصرين الآخرين، فلا نرى إلا جواز الأمر أو حرمته أو بطلانه أو صحته معزولا عن العنصرين الباقيين مع وجود احتمال كبير أنها انبثقت منها، وكذلك نجد تشريعات عمر، وعثمان، لكننا لا نجد تشريعات عمر بن عبدالعزيز وبقية الخلفاء الفقهاء، وإنما تؤخذ تشريعاتهم كفقه مجرد كما يؤخذ فقه مجاهد أو مسروق أو غيرهما، أي انزوت في الكتاتيب أو زُويت مع أنها انبثقت من مصلحة عامة ملاحظة.
إن هذا الإسلام الكتاتيبي يمكن تعريفه أو حصره بتلك المتون والمختصرات القديمة، التي يغلب عليها الطابع والصياغة القانونية، بل إن أغلبها يشبه القوانين بصياغة قانونية قديمة، وبعض أحكامها آت من إملاءات ناتجة من المخيلة التي يغذيها علم المنطق بفرض مزيد من الاحتمالات، ولذا كانت تلك الاحتمالات هي المادة الرئيسة للفقه لا الواقع المعاش وبعضها بعيد، ولذا سار في معزل عن الحياة، وهذا ما جعله يتشابه عبر كل العصور، ثم أتينا لهذا التشابه فظنناه إجماعا، وأن الأمة تلقته بالقبول، وأنه لم يتغير عبر العصور، وأنه ثابت وغيرها من عبارات التبجيل مع أنها نتاج تلك العوامل من عزلة وعلم منطق محدود مما لا يحدث تغييرا إلا في النادر.
هذا المسار الكتاتيبي وهذا التشابه الكبير عبر العصور يوحي بأن هناك علمانية في الدول السابقة، ولو كان الإسلام مطبقا لأصبح أمامنا الآن عدة نماذج تطبيقية أو عدة تطبيقات لا تطبيق واحد ـ مع تحفظي على كلمة تطبيق وأذكرها هنا للتوضيح ـ وأنه سار موازيا للدولة وللحياة ولم يسر كجزء منها، فكيف يكون الاختلاف في عهد الخلفاء الراشدين أكبر من الاختلاف في بقية العصور في التأطير والتنظير الأصولي المرتبط بالواقع لا المرتبط بالمنطق سوى انتعاشات يسيرة أتى بها الشاطبي وابن القيم والعز بن عبدالسلام وقلة قليلة لا تكاد تذكر، فهذا لا يعدو أن يكون الإسلام معزولا عن الحياة من بعد الخلافة الراشدة أو أنه كان يطبق بشكل خاطئ طيلة هذه القرون.
إن الخطوة الأولى للخروج من هذا المسار الضيق، وحتى لا نجعل الإسلام معزولا في دهاليز الكتاتيب وأشخاصها كما هو حاصل الآن، هو توسيع المسار ويشمل ذلك ركنيه: العالم والتأليف، فلا بد من إشراك المثقف والاقتصادي والسياسي وعالم النفس والاجتماع في صناعته، بل والتنظير الأصولي له، وإدخال مفردات الحياة المعاصرة إلى التأليف الفقهي، ولا حاجة لترديد عدم الاختصاص، فربما أن الاقتصادي النبيه أكثر ضبطا لمسائل البيوع من فقيه الكتاتيب، وأقصد بالضبط الضبط الديني لا الدنيوي فقط.