أطلق أحد "الدعاة" حملة على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر" باسم "حصار العمل الخيري"، يدعو فيها إلى فك الحصار عن العمل الخيري، والمتمثل في إيقاف مجموعة من المشاريع والمؤسسات الخيرية، وقد تفاعل مع هذه الحملة مجموعة من الدعاة، مشيرين إلى أن سبب هذا الحصار يعود لإرضاء الغرب بسبب تهم الإرهاب، إذ يقول أحدهم: "نبدو عاجزين عن التخلص من عقدة سبتمبر بشأن العمل الخيري".
وأنا بدوري قد أشارك المشايخ الأجلاء في عدم توفر النية الحسنة عند الطرف المقابل "الغرب"، ولكن هل يعني أن هذه الاتهامات بلا رصيد واقعي تعيشه المؤسسات والجمعيات الخيرية؟ ولماذا ننزعج من هذه المقولات أو الاتهامات ونفتش عن نوايا الطرف المقابل، بدلا من التفتيش في واقع هذه الجمعيات وواقع العمل الخيري بشكل عام؛ لإزالة العقبات والصعوبات ومعالجة الانحرافات حتى لا نجعلها ذريعة بيد الدول الغربية للتهجم على الإسلام والمسلمين؟.
أليس الكثير من المؤسسات والجمعيات الخيرية تعاني من خلل وضعف إداري ورقابي واضح، فهي لا تقوم على أسس مؤسسية سليمة وتعاني من غياب التنظيم الإداري، ولا يوجد لها نظام محاسبي قائم على المعايير المحاسبية، ولا يوجد لديها خطط استراتيجية طويلة المدى ولا رؤية ورسالة واضحة للعمل الخيري.
ووضع الجمعيات بهذا الشكل لا يساعد على حل مشاكل الناس الاقتصادية ولا يقلل من مشاكل الفقر، والواقع أن بعض هذه الجمعيات لم تساهم ولو بالقليل في حل مشاكل الفقراء، بل أدت إلى أن يخسر الناس كرامتهم، وأن يمدوا أيديهم، وأن يتقاتلوا عند أبوابها، خاصة في شهر رمضان، فيرمى لهم مبلغ يسير من المال أو الطعام أو الملابس تبقي أحوالهم على ما هي عليه من البؤس والفقر.
وبهذا الصدد يقول أحد الدعاة عن الآثار السلبية المترتبة على حصار العمل الخيري ما نصه: "لا بد من تبيان آثار حصار العمل الخيري على الوضع الأمني والاجتماعي والاقتصادي للدولة، وربط هذه الأوضاع بالسنن الإلهية التي لا تجامل أحدا مثل زيادة الفقر وكثرة الفساد وانتشار الجريمة وقلة البركة وجفاف الأرض وارتفاع نسب البطالة وغير ذلك، ومقارنة أوضاع البلد قبل وبعد حصار العمل الخيري".. وهنا أتساءل: كم عدد المصانع التي أنشأتها الجمعيات الخيرية؟، وما الطرق التي شيدتها؟، وكم عدد المستشفيات والجامعات والمدارس التي أنشأتها؟ وكم عدد العاطلين الذين تم توظيفهم؟ فعلى أي أساس تتم المقارنة؟ فالأموال لا تصرف على أعمال الخير العامة، والتي من المفترض أن يستفيد منها الناس على المدى الطويل والاستراتيجي، وقد يتفق معي الشيخ الجليل على أن مساهمة ومشاركة الجمعيات الخيرية في التنمية محدودة وضعيفة جدا ولا تكاد تذكر، وأما خارجيا فللأسف فقد تم نزع الهدف الإنساني من عمل الخير من خلال التنافس الشرس بين المنظمات من مختلف الأديان والمذاهب العقدية.
ومع احترامي وتقديري للمشايخ والدعاة الأفاضل، فإني أرى أن الهدف من وراء حملة "حصار العمل الخيري" ما هي إلا للإثارة الشعبية والسياسية ليس إلا، وخوف البعض من سحب صلاحيات جمع الأموال والتبرعات، ناهيك عن النزعة السياسية والمذهبية لبعض الدعاة، والدليل على ذلك ما قاله صاحب الحملة في إحدى تغريداته على تويتر، والتي جاء فيها ما نصه: "أيها الدعاة في العالم، من يفيدنا هنا بصور وحقائق لمواقع أنشأها أهل التوحيد، ولكن بعد حصار العمل الخيري انقطع الدعم عنها، فتولاها أهل الضلال"، ويقول أيضا: "أرى حصار العمل الخيري وتجفيفه خارجيا، واحتفاء بمطربين ومطربات واستخفافا بفتاوى العلماء في الجنادرية فأردد: يا وطني.. سنن الله لا تحابي أحدا"، ومن هذه الأقوال يتضح التعصب الطائفي، والربط التعسفي والاستفزازي مع المهرجانات الوطنية وبأسلوب التهديد والتخويف وذلك انتصارا لرأي الداعية الشخصي.
وكعادة بعض الدعاة للأسف الشديد، فإن أية عملية إصلاح أو تنظيم لأي نشاط أو برنامج ومنها النشاطات الخيرية، يعتبرونها هجمة شرسة على الدين والرضوخ للضغوطات الغربية لتنفيذ مخططاتها للقضاء على الإسلام، وفي نفس الوقت يغضون الطرف عن واقع ومشاكل هذه الأنشطة، ويقللون من مخاطرها وآثارها السلبية.
لا شك أن العمل الخيري والإنفاق من الأوامر المهمة في تشريعات الإسلام، والإيمان بالله لا يتم من دونهما، وهو صفة لازمة من صفات المسلم، وللأسف فإن كثيرا من المسلمين يعرفون الإنفاق والعمل الخيري بشكل مشوش وغامض ويستندون على عاملين مهمين في ذلك هما الثقة المطلقة في رجل الدين، وإعطاؤه أموال التبرعات دون توثيق أو سند، والسرية عند الإنفاق باسم "فاعل خير" وذلك رغبةً في زيادة الأجر والثواب وعدم الاغترار بفعل الخير، وبالرغم من سمو ومثالية هذه العوامل إلا أنها كانت سببا في عدم الاهتمام بالتنظيم الإداري والمالي لكثير من المؤسسات والجمعيات الخيرية.
ومع الأحداث والتغيرات المعاصرة، استغلت أموال المتبرعين في تمويل عمليات إرهابية ومشبوهة، الأمر الذي أدّى إلى التضييق على الكثير من المؤسسات الخيرية خارجيا، وعدم استطاعة هذه المؤسسات الرد على تهم الإرهاب في ظل غياب التنظيم المحاسبي لها، إضافة إلى اهتزاز ثقة الناس في مصير تبرعاتهم.
وفي النهاية أقول للدعاة والمشايخ الأفاضل المعترضين على تنظيم وإصلاح المؤسسات والجمعيات الخيرية: إذا أردنا فك الحصار فعلا عن العمل الخيري، فلنعمل على تفعيل وتطبيق المعايير المحاسبية الخاصة بالجمعيات الخيرية، التي أصدرتها الهيئة السعودية للمحاسبين القانونيين مؤخرا، بحيث نستطيع صياغة نظام محاسبي سليم، يعكس بعدالة وشفافية نتائج عمليات الجمعيات ومركزها المالي، حينها لن تكون هناك حجة لأحد للتضييق عليها، بل وتحفز الناس على تأييد برامج هذه الجمعيات، وتشجعهم على تقديم المساهمات التي تمكنها من أنشطتها وتحقيق أهدافها الإنسانية.