للأطفال قدرة على ملء المكان وجذب الانتباه، للأطفال حضور طاغ ومؤثر. لدينا اليوم فيلم مليء بالحضور الطفولي. فيلمنا اليوم هو لكل شخص يحب الأطفال من إخراج توماس بالميس، ويقوم ببطولته أربعة أطفال من أماكن مختلفة من العالم، من منغوليا، وناميبيا وأميركا واليابان. الفيلم عبارة عن عمل وثائقي يتتبع مسيرة هؤلاء الأطفال من الولادة حتى بداية المشي. يقوم المخرج بتقديم مقاطع متزامنة للحظات متقاربة للأطفال الأربعة. كم هي ثمينة هذه الفرصة، فرصة مشاهدة هذه الكائنات الجميلة من بيئات مختلفة. كم هي مهمة لحظة حضور كل هذه الصور في سياق واحد.. سياق استطاع المخرج أن يقدمه بمهارة عالية، استطاع المخرج أن يجعل من الكاميرا غير محسوسة، بل إن حضوره كمخرج يتوارى في سبيل حضور اللحظة الطبيعية، اللحظة التي تتوافق مع عفوية وتلقائية الأطفال.

عنوان الفيلم بحد ذاته مدعاة للتفكير. لماذا يحب الناس الأطفال؟ طبعا الفيلم يقدّم هذا الحب على أنه حقيقة لكن حتى لو اختلفنا حولها، أعتقد أن أكثر الناس سيتفقون على أن أغلب الناس يحبون الأطفال. غالب الثقافات تحتفل بقدوم الأطفال للحياة.. الناس يتباشرون بالمواليد ويتفاءلون بحقيقة قدومهم للحياة. الحقيقة الأساسية مع كل حادثة ميلاد جديدة أن شيئا لا مثيل له قدم للحياة. كل طفل يختلف عن الآخرين سواء في تركيبته البيولوجية أو النفسية أو الذهنية. مع الولادة تنطلق حكاية جديدة وقصة مختلفة. أمل جديد، يعتقد بعض الناس أنه عنوان الولادة. آخرون يرون أن الإنجاب نوع من التفاؤل والثقة في الإنسان والحياة. مع حكايات هؤلاء الأطفال الموازية نرى هذا العالم المفتوح للأمام.. لا يشغل شيء الطفل مثل المستقبل، فهو يريد أن يكبر كل يوم، ينتظر متى تشرق الشمس حتى يراقب نمو جسده واستعداده للمستقبل.

الفيلم نص غني بالدلالات والملحوظات وأعتقد أنه من الممكن التفكير فيه من عدة أوجه. شخصيا أبهرني التشابه والاختلاف في المشاهد. التشابه الذي هو "الطفولة" التي جمعت كل الأربعة، هذا المشترك الإنساني، فمع الأطفال الأربعة كنا نرى الطفولة الواحدة بأسماء مختلفة، كنا نرى المشترك البشري الذي يجمعنا كبشر، المشترك الذي يقول بصراحة إننا نولد سواسية وإننا كبشر ننتمي للجنس ذاته. ولكن مع لحظة الولادة أيضا تبدأ رحلة الاختلاف. الرحلة التي تبدأ فيها كل بيئة بالتأثير على أفرادها وتخلق فيهم مواصفات مختلفة. الطفلان الأفريقي والمنغولي كانا قريبين من الطبيعة بينما طغت الصناعية على الطفلين الأميركي والياباني. تبدو حياة الطفلين الياباني والأميركي معدّة سلفا ومنظمة ومخططة بشكل دقيق. في المقابل يبدأ الطفلان الأفريقي والمنغولي يومهما بسلّة من الخيارات المفتوحة على الطبيعة المباشرة. لا أنسى أني كنت خائفا وقلقا على الطفلين الأفريقي والمنغولي فقد كانا قريبين من أخطار الطبيعة المباشرة، ولكن يبدو أن أخويهم الأميركي والياباني لديهما نصيبهما أيضا من المخاوف. نستطيع من خلال هذا الفيلم قراءة الاختلاف الثقافي في العالم اليوم كما يمكن أن نقرأ الإنسانية التي تحيط بهذا الاختلاف أيضا. هذه الصورة الكبيرة اليوم من خلال هذه الكائنات الجميلة تقول لنا الكثير خصوصا في وقت ترتفع فيه الحدة بين أفراد الجنس البشري.

على طول الفيلم كانت هناك موسيقى معبّرة لكن الأجمل كانت همهمات الأطفال الصغار، أصواتهم الأولى التي تملأ القلوب سعادة وبهجة. يحقق الفيلم إقبالا هائلا من المشاهدين الذين يبحثون عن شيء من البراءة والجمال. المشاهدون هنا ينظرون لأنفسهم أيضا ففي داخل كل منّا طفل لا يزال من أيام الولادة. رؤية الذات هنا مدعاة للتأمل والتفكير، مدعاة للهدوء والتفكير. رؤية الأطفال في أحوالهم المختلفة لديها القدرة على استدراج المشاهد إلى ذاته من جديد. ذاته التي تدفعه الحياة بظروفها المعقدة اليوم بعيدا عنها. بعيدا عنها حتى مرحلة الاغتراب البعيدة.. الفيلم هنا عودة للجذور والأعماق.. عودة للإنسان في داخلنا بعد أن أبعدتنا عاداتنا كثيرا عنه.

يبدو أننا لا نغادر طفولتنا بعيدا ويبدو أن تأمل الإنسان في طفولته ليس تأملا في ماضيه بقدر ما هو تأمل في حاضره ومستقبله. معرفتنا بالإنسان أصبحت اليوم تعتمد كثيرا على معرفتنا بالطفولة ومراحلها. الطفولة هي المرحلة التي تؤسس بقية المراحل وليست المرحلة التي تسبق بقية المراحل فقط. الفكر التقليدي يخالف هذه النظرة فهو يعتقد أن الطفولة هي مرحلة عابرة وسيتم طيها مع العمر. في هذا الفكر الطفل لا يفهم. الطفل سيفهم في المستقبل. انطلاقا من هذه المقدمة يختلف التعامل مع الطفل بشكل كبير. إذا كان الطفل لا يفهم فإن تعاملنا معه لا يعني الكثير فهو لن يدرك مغزاه على كل حال. إذا كان الطفل لا يفهم فالحديث الجاد معه بلا جدوى، الاستماع له بلا معنى، الكذب عليه لن يختلف عن الصدق معه، لن يقبض على تناقضاتنا. إذا كان الطفل لا يفهم فعلاقتنا معه لا تعدو رعاية لجسده لا أكثر. في المقابل حين ننطلق من كون الطفل قادرا على الفهم، وهو كذلك بما يفوق تصورنا، فإنه يبدو في علاقتنا معه إنسانا، إنسانا نرتبط معه في عقد أخلاقي واجتماعي يحفظ له كينونته واستقلاله. يستغرب كثير منّا رؤيته المربين في الغرب وهم يتحدثون لأطفالهم بجدية واحترام وكأنهم يتعاملون مع بالغين. الفيلم هنا يعطينا فرصة مثالية لقدرة الأطفال على التعلّم وسرعة نموهم الذهني. إنهم يتعلمون أسهل منّا البالغين.

الفيلم أيضا فرصة للمتعة والضحك، فقدرة الأطفال على الإبهاج عالية وعفوية. العمل برأيي إنجاز كبير للمخرج توماس بالميس وكما عودونا عباقرة الأفلام الوثائقية على أن الواقع والإنسان هما خير سيناريو ونص، وأن الواقع يحتاج فقط لمن يستطيع الرؤية.