حدثني صديقي ذات ليلة وهو يرتشف قدحا من الكافي لاتيه على شرفة مقهى عاصمي جميل قائلا: كنت متشددا، بل كنت ركنا من أركان التزمت ونبذ الغير.
ولقد كنت أرى على سبيل المثال هذه المقاهي وكرا للعصاة والمعاصي وملتقى للشياطين، ومن يتناول الكافي في هذا القدح فهو عاص للتشبه بالخواجات، ومن يشرب قائما فهو أيضاً عاص، والأكل في هذه الأماكن العامة قادح من قوادح المروءة والنزاهة. ولقد كنت أطلب الوجبة من البوفية وأحملها لأقصى مشارف المدينة لأتناولها حيث لا يراني أحد فيطعن في مروءتي وعدالة ديانتي. ولبس البنطال عمل بطال، من الموبقات. فهو اتباع لسنن الخواجات حذو القذة بالقذة، وهو جحر الضب الذي دخله الكفار فدخلناه تباعا.
ويردف صاحبي الجامعي الشرعي: ولقد بلغ بي الأمر أنني كنت أستحث الخطى ماشيا، وأسرع بالسيارة راكبا، إذا مررت ببعض المباني، كالأسواق مثلا خشية أن ينزل بها خسف أو سخط وأنا حينئذ بجوارها! وحين أقف عند الإشارة المرورية أكفر عن خطيئتي بالاستغفار وتصحيح النية لخشيتي أن أكون وقفت تعظيما لهذا الصنم الأحمر!
قال وكنا ننتقد أهل العلم أشد الانتقاد لكونهم حبيسي الكتب والبحوث ولم يقدموا للأمة شيئا، فلا دعوة من قبلهم لعامة المسلمين في أصقاع الأرض فما فائدة العلم وحفظ النصوص ولبس البشوت وسكنى أفخم البيوت! "هكذا يزعم".
ويضيف صديقي وهو متألم، لحقبة من زمن عمره، وعيناه تشيران إلى مدى الأسى على ما مر به من تشدد بالإسلام.
قلت فكيف نجوت من هذه الأفكار الظلامية؟
قال بالعلم، وليس غير العلم. بدأت أطرق صنوف العلوم الشرعية واستأنفت ممارسة هوايتي القديمة بالقراءة ولكن هذه المرة عكفت على الكتب الإسلامية الموثقة المشهورة، وخير ما وقعت يداي عليه هو السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام. فعجبت كيف كانت حياة النبي من خلال سيرته العطرة وذهلت من حبه للحياة واللباس والعطر، وذلك في قوله "حبب إلي من دنياكم النساء والطيب"، وعجبت من حبه للرفق بقوله "ما كان الرفق في شيء إلا زانه" (البخاري). وذهلت لضحكه وممازحته أصحابه فقال لرجل "ياذا الأذنين"، وحين أتته عجوز تطلبه عليه السلام أن يدعو لها بدخول الجنة، فقال: "لا يدخل الجنة عجوز" فولّت تبكي، فدعاها وقال: "أما سمعت قول الله سبحانه: "إنّا أنشأناهنّ إنشاء فجعلناهنّ أبكاراً , عرباً أتراباً".
وقد ورد أنه مازح بعض أصحابه فقال له: أريد أن تحملني يا رسول الله على جمل، قال: "لا أجد لك إلا ولد الناقة"، فولّى الرجل فدعاه وقال: "وهل تلد الإبل إلا النوق؟".
وصعقت حين قرأت أنه تسابق أكثر من مرة مع عائشة رضي الله عنها، وزادت دهشتي أيضا أنه كان يحملها لترى لعب الأحباش.
وهالني تعامله مع الآخر كمن بال في المسجد، وحين دخل اليهود عليه صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليك، يعني الموت، فقالت عائشة: عليكم السام واللعنة، فقال صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة، ما هذا؟ إن الله يكره الفحش والتفاحش". (البخاري)
وأنكر عمر على الحبشة لعبهم بالحراب في مسجده صلى الله عليه وسلم فقال: "دعهم يا عمر، ليعلم يهود أن في ديننا فسحة". أخرجه أحمد.
وسأل صلى الله عليه وسلم عائشة عن زواج حضرته للأنصار: "هل كان معكم شيء من لهو؟ ـ أي من طرب ـ فإن الأنصار يعجبهم اللهو". (البخاري). وقرأت أنه كان يحب السرور والتبسط لأهله وأصحابه، فقال كعب بن مالك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأن وجهه قطعة قمر وكنا نعرف ذلك. (متفق عليه).
عن عائشة رضي اللّه عنها أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم دخل عليها مسرورًا تبرق أسارير وجهه. (البخاري). وكان أيضا يضحك حتى تبدو نواجذه .(متفق عليه).
وأعجبني أنه كان يهتم بمظهره قال أنس: وما مسست ديباجة ولا حريرا ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت مسكا ولا عنبرة أطيب من رائحة النبي صلى الله عليه وسلم. (متفق عليه).
قلت: لقد نجوت وسلمت يا صديقي؟
قال الحمد لله أنني خرجت من الغلو والتشدد إلى الوسطية والتجدد.