• بينما كانت الفتاة أليزابيت تدرس الهندسة في الجامعة كانت تنظر إلى البيوت بشغف كقطعٍ تتفاضل فيما بينها، لكنها جميعاً تشكل صورةً جميلة. بعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً صارت الفتاة نفسها سيدةً في الخمسين، ومديرة لشركة هندسية، ونظرتها إلى البيوت تغيرت أيضاً، إذ صارت تراها مجرد قطعٍ معمارية مختلفة الأسعار. كانت أليزا تصف التغيّر الباهت الذي آلت إليه حياتها، كانت طريقتها خالية تماماً من الرضا، وأتذكر حديثها هذا في فيلم فرنسي، نسيت اسمه للأسف، عرضته منذ فترة القناة الفرنسية TV5

• يحضر السؤال البدهي؛ هل تنطفئ الصورة والدهشة والمغامرة بتقدم العمر! أو على الأقل هل تذبل! وأفكر أنه ربما يحدث هذا مع الإنسان المخطوف بماديات الحياة والمستسلم لها، وهذا المستسلم المخطوف قد يصبح مديراً وإلى غير ذلك من الكسب، لكنه كما الفتاة التي صارت مديرة.. يجيد الأسعار، بينما يدرك داخلياً أنه خسر الصورة. الفكرة هنا لا تعني مطلق المقايضة بالتأكيد، فقد يحدث قليلاً أن يكون الفنّان مديراً مثلاً، دون أن يخسر الصورة، وهذا صعبٌ ومرهق، بل ولا بدّ أنه شديد المرارة، وشخصياً عرفت أناساً مرّوا بهذه التجربة، كانوا يصفونها بأنها الأكثر تعاسةً وإجهاداً واصطداماً بجوهر حياتهم.

• قال الفنّان المصري رمسيس يونان مرة إنه "لا يمكن لعملٍ أدبي أو فني أن يحيا من غير أن يحوي عنصراً قويّاً أو ضعيفاً من عناصر الانطلاق والخيال والغرابة والتمرد على المألوف من الحدود". الفنّان كذلك، يموت إذا لم ينطو تكوينه على هذا العنصر من الخيال والغرابة والتمرد على المألوف من الحدود، وهذا بالذات ما يجعله غير قابلٍ للاختطاف ولا للاستسلام لشهوانيات المادة وتعقيدات الحياة الاجتماعية من حوله، وهذا في الغالب يكلّفه كثيرا من الأثمان ومشقة العيش وملاحقة لقمة صغاره، لكنه لا يستطيع التنازل عن عنصر الغرابة والخيال والتمرّد الذي فيه، فهو يفهم بمنتهى إيمانه أنه ضمان إحساسه بحرّيته وفرادته، بل ومعنى وجوده.

• الفنان المنقطع لمصيره وحياته وفنّه، تتعتّق روحه بالوقت، يصير لها ما يشبه البريق، وتلفّه دائرةٌ حميمةٌ وأخّاذة، تنسرب في كلماته ونبرات صوته وتحديق عينيه، وحتى في شروده وصمته. الفنّان تتعتق روحه بالوقت لأنه يتمسّك بكل يقينه بالدهشة والمغامرة والصورة، تتغير زواياها لكنها لا تغادره، بل تتمكن منه أكثر، حتى يصير هو إياها.