لاحظ مراقبو ودارسو منهاج الإدارة للإمارة لدى إدارة الأمير خالد الفيصل، بأن الأمير في كتابه "مسافة التنمية وشاهد عيان"، يركز على عدة نقاط مهمة في منهاجه الإداري الذي رسَّخ له طيلة فترة حكم وممارسة، امتدت نحو 35 عاماً (1971-2007) في منطقة عسير. ولا بُدَّ أن كليات "إدارة الأعمال" في الجامعات السعودية والعالم العربي، وربما في الغرب أيضاً ـ وهو ما يحتاج منا إلى بحث ورصد ـ قد درست هذا المنهاج، ورصدته. وقال عن هذا المنهاج د.علي العواجي في "جامعة الملك خالد"، إنه "سَجَّل وأبرز إلى حيز الواقع، تنظيرات إيجابية سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وثقافية، على حساب تنظيرات سلبية، كانت قد ذاعت، وترسَّخت في الآفاق". (جريدة "الرياض"، 21/ 12/ 2007).

تاريخ عسير المعاصر

إضافة لذلك، فإن هذا المنهاج يعتبر جزءاً من تاريخ عسير المعاصر. فكل مؤرخ ينوي كتابة تاريخ عسير الحديث، وكل عالم اجتماع يريد رصد التغيرات الاجتماعية الحديثة في عسير، وكل باحث لديه مشروع للكتابة عن البُنية الثقافية في عسير المعاصرة، وكل اقتصادي يود التعرف على الملامح الاقتصادية الجديدة في عسير في نهايات القرن العشرين، وبدايات القرن الحادي والعشرين.. كل هؤلاء لا بُدَّ لهم ـ لكي يكتمل وينجح عملهم ـ أن يقرؤوا كتاب خالد الفيصل "مسافة التنمية وشاهد عيان" وهو الأثر التنموي الوحيد، الذي تركه بين أيدينا الأمير حتى الآن، والذي يشرح فلسفته في الإدارة، وفنها، وعلمها، من خلال تجاربه اليومية وشهادته على واقع التنمية في منطقة من أهم مناطق المملكة، استطاع الأمير خلال 35 عاماً أن يجعل منها المنتجع السياحي الأول في المملكة، وأن يجعل من أبها عاصمة الثقافة السعودية، وأن يعيد الروح إلى عسير.

منهاج فن الإدارة التطبيقي

إذا كان هناك غبْنٌ لَحِقَ بفلسفة خالد الفيصل الإدارية، وعدم التفات الباحثين كثيراً في علم الإدارة، إلى ما حققه من علم وفن في الإدارة طيلة 35 عاماً، فهو ناتج ـ في ظني ـ من أن شخصية الفيصل المتعددة الجوانب، ومنها شخصيته الثقافية، قد طغت على شخصيته الإدارية. فقد عرفته العامة والخاصة أميراً شاعراً، وأميراً رساماً، وأميراً يقيم معارض للرسم، ويُحيي أمسيات للشعر، ورئيساً لـ"مؤسسة الفكر العربي"، وصاحب "منتدى ثقافي" في الرياض، وصاحب "مجلس ثقافي" أسبوعي واسع في عسير، ومفتتح وراعي "قرية المفتاحة" الثقافية التي أهَّلت أبها لأن تكون عاصمة الثقافة السعودية. ولكن العامة والخاصة، لم تعرف كثيراً وجيداً خالد الفيصل الإداري، ولم ترصد التغيير الكبير، الذي تمَّ في منطقة عسير طيلة 35 عاماً الماضية، وحوَّل "عسيراً" إلى "يسير"، كما قال الأديب الراحل محمد حسين زيدان.

يقول خالد الفيصل، شارحاً منهاجه الإداري في النقاط التالية، في كتابه "مسافة التنمية وشاهد عيان" عام 1420/ 2000، بعد قرابة ثلاثين عاماً من ممارسة الحكم، وتطبيق خطط التنمية، وحصاد مواسمها، في إمارة منطقة عسير، وهو الكتاب الوحيد في المكتبة السعودية والعربية، عن تجربة تطبيقية لحاكم إداري:

1- إن دور الإمارة لا يقتصر على الناحية الأمنية ـ كما يظن معظم الناس ـ وإنما يتعداه بخطوات واسعة وكثيرة إلى دفع عملية التنمية بكل قوة إلى الأمام، وبمشاركة باقي قطاعات الدولة المسؤولة والمناطة بها التنمية. فالإمارة ليست جهة تتفرج على تنفيذ خطط التنمية من قبل الجهات الأخرى المسؤولة، وإنما هي شريكة فعلية وواقعية في خطط التنمية وتنفيذها، لأن هذه الخطط لها، ومن أجلها، ومن أجل مواطنيها، الذين سوف يشعرون بنعمة التنمية، ثم بالمحافظة عليها، عندما يشتركون كمسؤولين ومواطنين، في هذه الخطط، وفي تنفيذها على أرض الواقع. ("مسافة التنمية وشاهد عيان"، ص 36).

2- خطط التنمية وتنفيذها، ليست أماني ومشاهدات، بقدر ما هي عمل وتحديات. ويشرح الأمير في لقائه مع أحمد الزين (برنامج "روافد"، فضائية "العربية"،31/ 3/ 2006) هذه التحديات بقوله: "التحدي، هو أن تغامر ببرنامج تنموي بهذه السرعة، وبهذا الكم والزخم، من المشاريع التنموية، سواء كانت في مجال الصناعة، أو في مجال التعليم، أو في السياحة، والشؤون الاجتماعية. يعني كل الأشياء هذه دفعة واحدة، وفي وقت واحد، وفي زمن قصير. يعني ما قطعناه نحن في 30 سنة، لم يقطعه غيرنا في 100 سنة". وتلك هي ظاهرة "الديناميكية الإدارية"، في تطبيق خطط التنمية المرسومة، وكيفية القبض على الزمن بقوة، الذي رصدناه في مقالاتنا السابقة هنا في "الوطن"، في الأسابيع الماضية.

3- ويضيف خالد الفيصل مفهومه عن "التحدي الإداري" بقوله: "إن التحدي الحقيقي الذي نواجهه، هو تحقيق الثقة الكاملة بين المواطن والمسؤول. ولكي نحقق هذه الثقة، من الواجب ترسيخ مفهوم، أن الإمارة ليست سلطة في يد المسؤول فقط، ولكنها سلطة في يد كل صاحب حق. وهي سلطة كذلك لكل مواطن، لكي تحميه من كل ما يُعيق مسار حياته. ("مسافة التنمية وشاهد عيان"، ص 40-41).

4- التنمية ليست قصيدة شعر يُنشدها شاعر واحد، وليست لوحة فنية يرسمها رسام واحد. التنمية ليست فعل فاعل واحد، وإنما هي فعل الدولة والجماعة، ومن أجل الجماعة. ويشرح خالد الفيصل هذا بقوله في اللقاء التلفزيوني السابق: "أنا لا أدعي لنفسي، أنني أنا الذي عملت هذه التنمية. طبعاً لا، الدولة هي التي عملت هذه التنمية، الحكومة هي التي عملت هذه التنمية. أنا شرفتني الدولة أن أكون منسّقاً بين الإدارات وبين المؤسسات الموجودة في منطقة عسير، في إدارة دفة هذه التنمية".

5- إن التنمية والإدارة، تحتاج إلى قائد متفائل، وليس إلى قائد متشائم، وفاقد للأمل. ومن خلال اقترابي من بعض أيام خالد الفيصل، ودراستي لشعره، وجدتُ فيه هذا الأمل، وهذا الإيمان، بقدرة الإنسان على العمل والإبداع. وهو يقول دائماً: "أنا إنسان متفائل بطبيعتي. لست من المتشائمين. وأعتقد أن الإنسان العربي لديه القدرة في ذكائه، وفي شخصيته، وفي تاريخه، وموروثه. الإنسان يستطيع أن يقف، بعد كل كبوة، وبعد كل تعثر، وينطلق. إيماني كبير بقدرة الإنسان العربي على تخطي كل المصاعب، وتخطي كل العقبات تماماً". كما قال في اللقاء التلفزيوني السابق.

عودة الروح لعسير

لا بُدَّ من الإشارة هنا، إلى أن الروح التي كانت مفتَقَدة ومهاجرة من عسير، قد عادت إليها بعد 1971. وكانت تلك أشبه بـ"عودة الروح"، التي كتب عنها توفيق الحكيم في 1933. وتمثلت "عودة الروح" لعسير، منذ عام 1971 في عودة رؤوس الأموال، التي سبق وهاجرت منها، وعودة رجال الأعمال من أهل عسير إلى إنشاء مشاريعهم التجارية، وبروز أبها كمركز لأكثر الفعاليات الثقافية السعودية، بحيث أصبحت عاصمة الثقافة السعودية. وظهور منطقة عسير كأكثر مناطق المملكة سرعةً ودقة، في تنفيذ خطط التنمية الشاملة.

(ولنا عودة).