يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من بات آمناً في سربه معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا".. رواه البخاري في الأدب المفرد.. وهنا النبي الأكرم، صلى الله عليه سلم، يتحدث عن قواعد كبرى في السعادة الدنيوية وتحقيقها، أولاها: (الأمن) الذي هو نعمة الله تعالى على عباده ومنته عليهم. وقد بين الله تعالى هذه المنة على قريش بقوله: "فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف"، وثانيها، قوله عليه السلام: "في سربه" أي في بيته الذي يلجأ إليه هو وأبناؤه، ويحقق فيه المتعة والأمن والسلامة النفسية والسكن النفسي والمادي. وقوله عليه السلام "سربه" يدل على التملك، فإن الرجل الذي يستأجر إنما يبيت في سرب غيره لا في سربه هو، وعليه فإن تمام الأمن هو أن يكون للإنسان المسكن الملائم الذي يحقق له هذا الجانب الاجتماعي المهم. وثالثها قوله: "معافى في جسده"، إشارة إلى الأمن الصحي وشرطه لتحقيق السعادة الدنيوية، وقوله: "عنده قوت يومه" إنما هو إشارة إلى الأمن الغذائي الذي يحتاجه الإنسان لتحقيق العيش في الدنيا، فإن تحقق هذا كله فكأنما "حيزت له الدنيا"، لأن هذه هي قواعد العيش السليم.
ومع تطور العمران البشري وقيم الحضارة المعاصرة لم يكن السكن بالأمر الميسور كما كان في الماضي، بل أصبح توفير السكن أمراً يؤرق الناس كما يؤرق الحكومات، وكلما استطاعت الحكومة حل هذه القضية أصبحت مهمتها سهلة في بقية القضايا، لأنها من أبرز علامات التنمية وتطور البنية التحتية للدول، وأكثر دلالة على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
إننا نعيش في لحظة حضارية مؤاتية لحل هذه المشكلة، فالثروات متوفرة، ولله الحمد، والإرادة السياسية متوفرة، ومن أعظم علاماتها تلك القرارات المتعاقبة التي أصدرها خادم الحرمين الشريفين ـ حفظه الله ـ في السنتين الأخيرتين لحل هذه المشكلة، ولا يوجد أي عائق لحل هذه المشكلة طالما وجد المال ووجدت الإرادة، وأي تأخر يتم في هذا الباب لا مبرر له من المسؤولين عن التنفيذ، إلا التقاعس وعدم القيام بالواجب المنوط بهم، فالمملكة العربية السعودية نفذت مشروعات جبارة أعظم من مجرد توفير مساكن للمواطنين، وها هي مشروعات الحرمين الشريفين يشهد العالم كله بالكفاءة والخبرة والسرعة في إنجازها، فلماذا لا تعمم هذه التجارب لحل مشكلات السكن؟ ألم تبن الدولة مدناً جديدة من الصفر كما في الجبيل الصناعية وأمثالها؟ ألم تنهض الدولة خلال خمسين سنة حتى أصبحت من الدول العشرين العالمية؟.. إن كل شيء متوفر واللحظة التاريخية مؤاتية لحل هذه المشكلة، فكيف لو جاءت مثل هذه الأزمات والدولة تعاني من شح في الموارد أو أزمات سياسية أو اقتصادية.. كيف يكون الوضع؟ وعليه فإن حل هذه القضية هو من شكر النعم، والتباطؤ فيها يعني خلق مزيد من "الحنق" الاجتماعي، الذي أصبح يقارن بين حجم المدخولات وتعثر الحصول على السكن المناسب، فكيف والمواطن يحتاج إلى أن يعمل خمس عشرة سنة حتى يحقق قيمة أرض، ويحتاج لمثلها حتى يستطيع أن يبني بيت الأحلام، والدولة وفقها الله ليست عاجزة عن حل مثل هذه القضية التي باتت الشغل الشاغل للعقل الاجتماعي السعودي.
إن الكرة الآن في مرمى التنفيذيين الذين عليهم أن يدركوا أن "السرعة" في التنفيذ هي مقياس النجاح بجانب الجودة في الأداء، وأن التأخر في تحقيق العدالة في مثل هذا الأمر هو ظلم حتى لو تحقق مستقبلاً، وأن وجود العوائق لا يبرر التباطؤ، لأن العوائق هي التي تبرز القدرات والخبرات والنجاح في تجاوزها وإيجاد الحلول البديلة التي ينتظرها الناس ويترقبون كيف ستحقق هذه القرارات.
إن الإجراءات التي اتخذتها الدولة من سن نظام "الرهن العقاري"، ثم مناقشة سن نظام "الزكاة والضريبة" على الأراضي الشاسعة، ونقل ملكية الأراضي إلى وزارة الإسكان، والأمر بتطوير الأراضي والمخططات قبل تسليمها للمواطنين، ثم تسليمهم القروض للبناء.. كلها سوف تسهم في سرعة تسليم المواطنين للمساكن، ولكن هذا لن يتم بنمطية الأداء الرتيب والبطيء، بل علينا أن نستقدم الشركات الكبرى للقيام بهذه المهام في أسرع وقت، وتشجيع القطاع الخاص على تطوير شركاته ليكون على مستوى القيام بمثل هذه المهام الكبيرة، خاصة أن الطالبين للمساكن بمئات الآلاف، ولن يتم توفيرها إلا بعمل دؤوب وسرعة وجودة وتخطيط محكم.
إن تطوير "الضواحي القريبة" من المدن الكبرى على وجه التحديد، والتي تعاني أكثر من غيرها من شح الأراضي السكنية وغلاء أسعارها، هو الذي سيخلق الفرص المناسبة للمواطنين للبناء، ومن ثم ربط هذه الضواحي القريبة بخطوط قطارات وطرقات سريعة تسهل للموظفين التنقل من المدينة إلى هذه الضواحي، وهو أمر معمول به في كل مدن العالم الكبيرة التي تعاني من التكدس، ثم تطعيم هذه الضواحي بالعوامل الجاذبة من جامعات ومستشفيات ضخمة وخدمات متطورة حتى تكون عوامل جذب لمن يريد أن يسكن ويبني فيها، وهذا حل مثالي لفك الاختناق المروري والزحمة العالية في الطرقات، وينفس عن هذه المدن الترحل غير المنضبط في السنوات الأخيرة. كما أن ترتيب قضية التوزيع للأراضي والمساكن على حسب "الاستحقاق" مهم للغاية، فلا بد من النظر إلى عوامل كثيرة في التوزيع.. يراعى فيها السن وعدد الأولاد والدخولات والحاجات الإنسانية كالمعاقين حتى تحقق العدالة في هذا الأمر المهم.
إنني متفائل جداً بحل هذه القضية المؤرقة إذا نظرت إلى القرارات العليا الصادرة بحقها، ولكنني ربما أصاب بالإحباط حين أرى البطء في تنفيذ كثير من المشروعات، ولذلك فإن وزارة الإسكان والجهات المعنية أمام تحد تاريخي مع المسؤولين والمواطنين.. وإن غداً لناظره قريب.