يدرك من يعرف الحد الأدنى عن طبيعة المجتمع المصري أنه "متنوع ومتسامح"، ففي البناية الواحدة تسكن أسر مسيحية مع أخرى "سلفية" وثالثة ممن ينتمون للطرق الصوفية، ناهيك عمن لا يمكن تصنيفهم باعتبارهم من "عوام المسلمين" الذين لا يتبنون أي انتماءات حركية.
واتسع صدر المصريين لاستقبال الغرباء المضطهدين كما حدث ليهود أوروبا والأرمن وغيرهم، لكن البلاد شهدت خلال العقود الماضية تحولا جذريًا فأصبح يضيق حتى بقطاعات أصيلة من المصريين، كالأقباط مثلا، وهنا لا ينبغي للمرء أن يصدق ذلك اللغو الفارغ عن النسيج الواحد وغيره من الهراء، فما يقال أمام الكاميرات، أو في المؤتمرات لا صلة له بالواقع.
فمصر تشهد الآن حالة انقسام عميقة لا يرى المحللون السياسيون أفقا لاحتوائها، وبلغت تداعياتها حدًا أصبحت معه صورة المصري البشوش الطيب مجرد "حالة فولكلورية"، فالأقباط اتخذوا أحياء وبنايات بعينها، مقابل مساجد لا يعتلي منابرها سوى مشايخ السلفية، بينما هناك مساجد أخرى يؤدي الفريضة فيها أتباع الطرق الصوفية وحدهم، وبينهما تنوعات لا حصر لها، سواء من الإخوان، أو أئمة يتبعون وزارة الأوقاف التي باتت بدورها موضع تجاذبات لا يدري المرء نهاية لها في المدى المنظور.
ويواجه نظام حكم الإخوان مأزقا حقيقيا حيال "هوية الدولة"، فلا هم يرضون حلفاءهم في تيار الإسلام السياسي ممن يذهب بهم الشطط لحد قد يُفضي لأنظمة بائسة على غرار "اللا دولة" في أفغانستان والصومال، أو إعادة تدوير نفايات التاريخ كما حدث في نهاية "رجل أوروبا المريض" أي الخلافة العثمانية التي تجاوزها الأتراك أنفسهم ليؤسسوا دولة عصرية حققت المعادلة الصعبة بالتصالح مع العالم المعاصر من جهة، والحفاظ على هويتهم الإسلامية من جهة أخرى.
في الجانب الآخر من هذا المشهد الشائك يجد الإخوان أنفسهم من كوكب آخر خلافًا للكوكب الذي ينتمي إليه تيار المعارضة المدنية، فليس هناك ثمة نقطة التقاء واحدة بين الفصيلين، بل يتسع الانقسام بينهما لحد الشقاق الذي يُنذر بالأسوأ.
وفضلا عن "أزمة الهوية" المستعصية، فهناك معضلة أخرى تواجه تجربة حكم الإخوان وهي الأزمة الاقتصادية، فيرصد مراقبون أن الفشل في التوصل لاتفاق مع صندوق النقد الدولي يهدد بتراجع مستويات المعيشة لقطاعات واسعة من الطبقة الوسطى التي تتآكل باستمرار.
وحسب بيانات رسمية، فقد ارتفع عدد العاطلين في مصر إلى 3,2 ملايين عاطل، فضلا عما لا يقل عن مليونين آخرين غير مسجّلين في الإحصائيات الرسمية التي تفتقد الدقة ويعتريها عوار في مصداقيتها، بينما يستمر انخفاض قيمة الجنيه بنسبة تتراوح بين 10% إلى 13% من قيمته قبل أقل من عام، وتحديدًا منذ اعتلى الرئيس مرسي سدّة الحكم.
يُبدي كثيرون مخاوف جدّية من "ثورة جياع"، خاصة خلال الشهور المقبلة مع بداية الصيف الذي تتزامن فيه مواسم شتى بين شهر رمضان المبارك وعيد الفطر، وقبلهما أعياد المسيحيين، وقبل أن ينتهي كل هذا ستبدأ الدراسة بالمدارس والجامعات بما تحمله من مصاريف واستعدادات، فكل هذه الأعباء ستضع نظام حكم الإخوان أمام تحدٍ خطير قد يعصف به في أي لحظة، فالوعود البرّاقة من قبل الجماعة وقادتها أمست على محك الواقع.
تبقى مسألة أخيرة ربما كانت الأخطر من نوعها بتقديري وهي الصراعات داخل بيت الإسلام السياسي ذاته، فالتيار المتشدد المسمى بـ"السلفية الجهادية" يرى أن الإخوان مجرد استنساخ لنظام مبارك ولكن بسمت يبدو إسلاميًا، وأن الجماعة ليست جادة في تطبيق شرع الله كما ينبغي أن يكون وفقًا لمفاهيمهم، ويستنكرون مواقف الإخوان، متهمين إياهم بالوقوف وراء عدم النص على تطبيق الشريعة الإسلامية في الدستور الجديد وغيره.
باختصار باتت تجربة الإخوان في السلطة في مهبّ الريح بين حلفاء يصعب احتواؤهم، وخصوم يستحيل الالتقاء معهم، وسلسلة أزمات سياسية واقتصادية وغيرها مما يجعل "لحظة الانفجار" ربما تكون أقرب مما نتخيل جميعًا.