تحت ضغط النكسات العسكرية والسياسية التي شهدتها الولايات المتحدة في عهد الرئيس جورج د. بوش اضطرت واشنطن إلى نبذ نظرية الحرب الاستباقية وحتمية تغيير النظم العربية، وتبني سياسة جديدة قائمة على الاحترام المتبادل والحوار والشراكة الاقتصادية مع العالم العربي والإسلامي. وهذا ما أعلنه الرئيس الجديد فور توليه الرئاسة.

وأمام هذا التغيير وجدت إسرائيل نفسها في وضع جديد يكاد يجردها من وظيفتها التاريخية كرأس حربة في الحرب غير المعلنة لتطويع المشرق العربي وإخضاعه لأهداف السياسة الغربية. فلا تحتاج السياسة الجديدة التي تهدف إلى درء مخاطر تصاعد النفوذ الإيراني ونمو الحركات المتطرفة، إلى دولة متخصصة بتأديب الدول المحيطة، وإنما إلى إسرائيل جديدة أيضا قادرة على التعاون مع الغرب من أجل الحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار المهدد في منطقة حيوية بالنسبة للمجتمعات الصناعية. وربما إلى تعزيز قدرات الدول العربية الحليفة، العسكرية والسياسية لتمكينها من مواجهة تيارات الاحتجاج والتمرد العاتية، الدينية والإثنية.

لم تعن السياسة الجديدة تغيرا في الموقف من المصالح العربية الأساسية. وإنما التراجع نحو خطوط دفاعية أكثر قدرة على حماية مصالح الغرب الاستراتيجية. وليست خطوط الدفاع الأنجع هذه سوى إعادة تكليف الدول العربية بتحقيق الاستقرار والأمن في بلدانها. أو على الأقل المشاركة فيهما، بعد أن سعت سياسة الرئيس الأمريكي السابق إلى نزع الوكالة عنها، والعمل على تغيير سلوكها والإطاحة ببعضها، والأخذ بزمام الأمور مباشرة في الإقليم لتأمين الأمن والاستقرار بالتعاون مع إسرائيل وتعزيز دورها العسكري والاستراتيجي.

ولم تعن السياسة الجديدة أيضا التخلي عن إسرائيل أو التضحية بها. وإنما دفعها إلى لعب دور أكثر إيجابية، وإخضاع استراتيجيتها التوسعية بشكل أكبر لأجندة السياسة الغربية. مما يتطلب من حكومات إسرائيل التقليل من استعراض القوة ومن اللجوء المتكرر إليها، وبشكل خاص تجميد مشروعها الاستيطاني الذي أصبح مصدر استفزاز دائم وتقويض لصدقية الحكومات العربية.

باختصار، كانت السياسة الأمريكية والغربية الجديدة تحلم، من خلال العودة إلى التحالف مع النظم العربية القائمة وتقريبها منها، بما في ذلك النظم التي لديها مشاكل معها، في أن تستعيد سيطرتها على المنطقة، بعد زعزعة النظام الإقليمي الذي أقامته في المرحلة السابقة، وكانت قوة إسرائيل وتفوقها ونشاطيتها الحربية ركنه الرئيسي. وهي تأمل في أن تنجح في تكوين جبهة عربية متراصة تقف ضد "زعزعة الاستقرار" والصعود الإيراني المتواصل. ومن الحتمي أن مثل هذا المشروع لا يمكن تحقيقه مع استمرار تسليط إسرائيل كوكيل أعمال مفوض في المنطقة. وبالمثل، إن إضفاء أي حد من الصدقية على هذه السياسة يتطلب كبح جماح إسرائيل وتحديد حجم أطماعها في التوسع الإقليمي الاستيطاني. وهكذا عادت قضية حل النزاع العربي الإسرائيلي إلى مقدمة المسرح بعد غياب طويل.

للدفاع عن دورها التقليدي، شكلت إسرائيل مع اللوبيات المقربة منها جبهة متراصة وفاعلة لإجبار الرئيس أوباما على التراجع عن أهدافه أو حرمانه من وسائل تحقيقها. وتدل الشروط التي أعلن فيها استئناف مفاوضات التسوية السياسية الفلسطينية الإسرائيلية على أن مقاومتها قد أثمرت. واضطر الرئيس أوباما إلى التراجع عن وعوده التي كان قد قدمها للعرب.

بالمقابل تراجعت الجامعة العربية عن شروطها التي أعلنتها على لسان أمينها العام، والتي نصت على أنه لا عودة للمفاوضات من دون وقف الاستيطان والحصول على ضمانات بجدية الدورة الجديدة منها، وقبلت بالتغطية السياسية على دخول الفلسطينيين في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل من دون أي إطار زمني أو سياسي واضح.

كنا نعتقد أن إسرائيل ستجد نفسها أخيرا في مأزق وستضطر للقبول بشروط واشنطن أو على الأقل ببعضها، وأن الموقف العربي كان الأقوى، بسبب الاتفاق العربي، والتردي الكبير الذي حصل لصورة إسرائيل وسمعتها بعد نشر تقرير جولدستون، ثم أكثر من ذلك هجومها على أسطول الحرية المتوجه إلى غزة وانكشاف جريمة حصارها للقطاع للرأي العام العالمي. فما الذي حدث حتى انقلبت الأمور رأسا على عقب، وقبلنا بخسارة الجولة الأولى من المفاوضات، وهي الأهم، لأنها تتعلق بشروط سيرها وإدارتها؟

جميعنا نعرف أن لإسرائيل لوبيا قويا في واشنطن، وأن هذا اللوبي قد عمل المستحيل للي عنق أوباما وثنيه عن قراره بدعم مفاوضات تفضي إلى إقامة دولتين كحل نهائي لما يسمى بأزمة الشرق الأوسط. وهناك من يشير إلى أن الجامعة العربية قد تلقت رسائل تطمينية من الرئيس الأمريكي شجعتها على المضي في المفاوضات المباشرة من دون شروط. لكن هناك أيضا إشارات متكررة إلى التهديدات التي تعرض لها الفلسطينيون ومخاطر رفضهم الانصياع إلى مطالب الحكومة الأمريكية، واحتمال تخلي الإدارة عن دعم الفلسطينيين في هذه المرحلة وتركهم يواجهون مصيرهم لوحدهم.

كل هذا صحيح لكنه لا يفسر وحده نجاح نتنياهو في ثني الإدارة الأمريكية عن سياستها؟

الصحيح أيضا أن إسرائيل عملت كل ما بوسعها لتحويل الموقف الذي كان لغير صالحها، وجر العواصم الدولية في النهاية، وفي مقدمتها واشنطن إلى القبول بشروطها. وليس ما قامت به في واشنطن عن طريق لوبياتها هو الأهم في نظري؛ ولكن ما حاكته من مناورات في المنطقة هددت بزعزعة استقرارها، وكان آخر فصولها ما نشرته صحافتها عن مضمون القرار الظني للمحكمة الدولية، وما أحدثته من ضجيج حول احتمال نشوب حرب في المنطقة أو تجدد الفتنة والحرب الطائفية في لبنان. وقد ابتلع العرب الطعم، فكادت الفتنة تشتعل بالفعل، مما دفع القادة إلى قمة بيروت لتطمين الأطراف القلقة وتهدئتها. وأمام هذا الوضع صار القبول بالتنازل في شروط التفاوض حول التسوية الإقليمية عند العرب وربما بالنسبة لإدارة أوباما أيضا أهون الشرين أمام مخاطر زعزعة الاستقرار الإقليمي الذي كان ولا يزال السلاح الأمضى لإسرائيل. مما يعني أن جوهر الضعف في الموقف العربي هو نقص المناعة الدائم وربما الكامل في المنظومة العربية بأكملها.