الطبيعة قوة إبداعية، لكن بالرغم من أهمية أشكال النشاط الحياتي النظري والعملي، يتحقق في الفن وحده التركيب العالي، ولذا يعدّ النشاط الفني أرقى أشكال النشاط الإنساني، إذ يزول التناقض بين الأسس العلمية والنظرية، فيتحقق الوعي مع العمل، الحرية مع الضرورة. مقولة الفيلسوف الألماني شيلينغ للمصالحة بين الحرية والضرورة والنظري والعملي. فإذا كان الفن هو أرقى النشاط الإنساني، فكيف بالمسرح "أبو الفنون"؟! ولندلف إلى عالم المسرح كونه العالم الموازي لهذا العالم، بما فيه من أمواج تزف إلينا طحالب قاع البحر الراقدة في أعماقه في مثل هذه الأيام!.

بالرغم من هذا الخضم الهادر من التحولات والسعي نحو التغيير والنزوع إلى الحرية الإبداعية في أرجاء الوطن العربي، إلا أن المسرح يبسط رداء ساكنا على وجه إبداع الثقافة العربية، وكلما تحركت الأعماق استرخى في سبات عميق!، وإذا ما تساءلنا عن هذا الجبروت في الاسترخاء، وعدم الانصياع لأي أمواج ثقافية تأتي من هنا أو من هناك، سنجد أن الإجابة تكمن في أصالة المسرح ورسوخه وجبروت عناده. فهو لا يقبل إلا ما يراه هو دون غيره ولا يقبل إلا الصدق.

المسرح لا يقبل إلا الوعي والعلم والمعرفة والإبداع الحق، وهذه أشياء مسلمة لا مراء في ذلك. ولعلها غير متوفرة بالشكل المطلوب، خاصة أنه يواجه تقدما عالميا هائلا في مدارجه وفنونه، ولكن العلة الكبرى في المسرح العربي هي انتفاء عنصر الحب. فالمسرح مارد كبير يستعصي على كل من أراد ركوب موجته، إلا لمن أحبه!، ولكن بعض القائمين والممسكين بمعاقل المسرح العربي لا يحبون إلا ذواتهم، ولذا فهو شديد العناد. المسرح لا ينهض إلا بالحب، حب المشتغلين به لبعضهم، وليس لذواتهم. وهذه حقيقة، فالمسرح هو الفن الوحيد الذي لا يُتمم إلا بالإبداع الجماعي، هو فن "النحن" وليس فن "الأنا"، وهذا أول درس يلقنه المسرح إيانا! في الذوبان في الجماعة، فإن انفرد أحد منا أو تعالى أدار لنا المسرح ظهره، هذا أولا. ثانيا: حبه هو في ذاته؛ لأنه لا يقبل من تعامل معه من فوق؛ لأنه هو الكهف التي يسكنه الكل، وبالتالي فمن ارتقى صهوته سقط، كونه الحصان الجامح المتمرد، الذي لا يقبل الترويض والتدجين. وتلك هي المشكلة التي فشلنا في التعامل معها، نمارس المسرح كي نحقق ذواتنا، ونصنع مجدا لأنفسنا، فيشتاط غضبا؛ لأنه يريد أن يتحقق هو قبل كل شيء. ننتج المسرح لنعرضه في "فاترينا" وبرواز محكم لنعرضه للعامة أو للعالم، بينما المسرح في الوقت ذاته يأبى أي "براويز" أو أطر؛ لأنه حر لا يقبل إلا الفضاءات الرحبة، فهو يلقننا الدرس الثاني في نبذ التشييء والتأطير، والعرض في "فاترينات"!.

هباء ما نبذله من جهد، وهباء ما نحلم به لتحقيق نهضة مسرحية مع كائن يتسرب إلى دواخلنا فيعرفنا أكثر منا، تلك إذا هي المشكلة الكبرى.

لماذا نريد أن نناطح العالم، ونحن ندرك كنه المشكلة التي لم يستشعرها المسرح في كل بلاد الله غيرنا. علينا أن ندرك أننا نتعامل مع المسرح بالسير بظهورنا، ثم نهلك أنفسنا في الدراسات والأبحاث والأطروحات ونيل الدرجات العلمية وكل ما أعطانا الله من أقلام وأحبار!.

فلا ينسجم دائما أبدا فن الإبداع المسرحي وفي دواخلنا شيء من الانتفاخ وحب الذات، فكما يرى "شيلينغ": أن "تطور الفن لا يتحقق إلا في صورة التحرر الدائم من العياني والتركيز الشديد على الأساس الروحي". ولن يتأتى ذلك بتنحي المادة جانبا لتتجلى لنا إدراكات الإحساس الروحي القائم عليه هذا النوع من الإبداع. أما أن يظل المسرح يتحرك من خلف قضبان الوعي المكبل للإبداع، فهذه كارثة في كل أرجاء المسرح العربي، وذلك "لأن فن المسرح هو شكل خاص للتأمل والمعرفة الذاتية، فيتجلى تعبيره في الصورة وفي الروح وبالتالي في المزاج لا في المادة".

وقد أدرك هواة المسرح في مصر هذه المعضلة، فتحركوا خارج الإطار المكبل للإبداع بثورة مسرح متحرر من قيد المؤسسات، ومن سدنة المسرح، فانطلقت مهرجانات وفرق وعروض لا حصر لها في غضون عامين، ومنها "للفن ميدان" الذي شكل عروضا رائعة في الشارع وفي الميادين. وخرج لنا المسرح المستقل والذي عمل على إقامه مهرجان كبير بعروض كثيرة منها الرائع ومنها ما دون ذلك، وخرجت لنا آفاق المسرح، بمهرجان ضم ما يقرب من ثلاثمئة عرض وقد تشرفت بالمشاركة في التحكيم فيه. وخرجت لنا مواهب رائعة بالرغم من أن ميزانيته لا تتعدى أربعين ألف جنيه، مما أضعف مستوى العروض. فالمسرح يتكئ على العرض الـ "شو". إلا أنها تظل هناك حسنة واحدة وهي متعة كسر القيد والانطلاق في الفضاءات الرحبة، فلا يهمنا هنا الكم بقدر ما يهمنا أن يخرج لنا مبدع واحد أو اثنان في كل ذلك، فربما يولد مسرحي واحد؛ لأن المسرح العربي يعاني من ندرة الخصوبة ونحن من أصابه بهذا الجفاف.

لقد شاهدنا عرضا مسرحيا روسيا، وهو عرض تحت الماء بكل ما للعرض المسرحي من عناصر وإبهار، وهو "مسرح ألكسندر كوزانوف تحت الماء في روسيا" وقد أطلق عليه "المسرح الأعجوبة" وقد اختار المخرج فريق العمل بأكمله من الممثلين البارعين ليس في التمثيل فحسب، وإنما في الغطس أيضا. هذا هو المسرح يستجيب طواعية للآفاق الرحبة، ودون قيود ولا أطر أو "فاترينات" العرض. لنعلن عن الإبداع المسرحي وليس عن ذواتنا. فهو سيد الإبداع والمبدعين ولا سيد له، وإن استشعر السيادة خنقنا وخنق نفسه. فها هو يأبى أي ربيع ولكنه ينفث رياح الشتاء القارس علينا علها تحمل لنا حبوب اللقاح.