لا يقبل الكثير من المسؤولين عندنا إطلاق كلمة ظاهرة على بعض المشاكل التي يعاني منها المجتمع، ويدافع هؤلاء عن مواقفهم قائلين: "لم تصل المسألة هذه أو تلك لحالة يمكن أن نطلق عليها ظاهرة، فهي لا تعدو حالات فردية لا يمكن الاستناد عليها في الحكم على الأشياء، ومن ثم التهويل وإعطاء الموضوع أكثر مما يستحق".
هذا التحفظ قديم، ويمكن تصنيفه على أنه من ضمن مجموعة كبيرة من الآراء التي لا يمكن للمسؤول الحكومي تجاوزها أو تبديل قناعته حولها، حتى لو بدى له خلاف ما يظن وما يقول، فهو "تربى" وتعايش لعقود مع هكذا فكر، وهكذا ثقافة قائمة على التهوين من الأمور حتى وإن شكى وتذمر الناس من ظاهرة لا يختلف اثنان على أنه لا يمكن تصنيفها على أنها حالة فردية أو شاذة.
على المستوى الشخصي يمكن لي الجزم أن مشهد المتسولين الصامتين وغير الصامتين والثابتين والمتحركين، واقع نعيشه ونلمسه ونراه في مجتمعنا منذ أربعة عقود، وهذا المشهد لا يمكن منذ أربعين سنة تسميته إلا بالظاهرة، بل وظاهرة مستشرية ومتفشية ومتجذرة ومنظمة ورغم ذلك ظل المعنيون عن مكافحة التسول يكابرون ويقللون من شأن هذا السلوك، الذي يكبر يوما بعد يوم في ظل عدم وجود جهود جادة ومنظمة ومدروسة للقضاء على هذه الظاهرة أو الحد منها.
قبل أيام كنت في العاصمة الرياض -التي في الغالب أزورها كل أسبوع أو كل أسبوعين- وقد لاحظت أن ظاهرة التسول فيها ربما لا ينافسها في القوة والتنوع والجرأة إلا ما يحدث بشكل شبه مماثل في مكة المكرمة، فقد بات التسول في الرياض سمة من سمات العاصمة، فما إن تدخل مسجدا إلا ويتنافس المتسولون فور فراغ الإمام من الصلاة في توجيه خطب الشكوى والطلب، وما إن تدخل بقالة أو بنكا أو مكتبة أو مطعما إلا ومشهد المتسولين يطاردك، خاصة النساء الجالسات عند أبواب تلك المحلات، بل تجاوز الموضوع الجلوس عند الأماكن السابقة إلى الجلوس على الأرصفة عند القصور والمنازل الفاخرة، ولم تتوقف المسألة عند هذا الحد ففي اليوم قد يوقفك في الشارع ثلاثة إلى أربعة أشخاص لا تبدو على مظاهرهم علامات المتسولين طالبين منك المساعدة، وهناك من تجده في سيارة ومعه امرأة وأطفال يجبرك على الوقوف ليتسول منك بحجة أنه يمر بظروف وأنه ليس من أهل هذه المدينة، فضلا عن أولئك الذين يدخلون عليك في المطعم وفي المكتب وفي البنك والعيادات طالبين المساعدة مع الدعاء لك وفق المكان الذي أنت فيه، فهنا دعوة بالشفاء وهناك دعوة بزيادة الرزق وهكذا.
الرياض باتت حاليا محاصرة بالمتسولين بشكل مزعج ومشوه، وهذه الظاهرة تزداد بشكل كبير وسريع، ولا أشعر أن هناك أي جهد يبذل لمحاصرة هذه الظاهرة المزعجة والمؤذية للسكان.