مجموعة من قضايا "الفساد" التي ظهرت على السطح الإعلامي مؤخراً، تتعلق بإدارات التربية والتعليم في كل من منطقة حائل ومحافظة الزلفي، والتي أصبحت قضايا رأي عام ونالت اهتمام غالبية الناس، ولعل هذا هو الوقت المناسب لوضع إدارات التعليم على محك النقد والتقييم.

إن الموقف الأسهل تجاه مثل هذه القضايا هو إلقاء اللوم وكامل المسؤولية على إدارات التربية والتعليم ووصفها بالإهمال والسلبية والفساد، وهذا هو الموقف الأكثر شعبية بين الناس، ولكنه ليس الموقف العادل والأكثر منطقية.

إن توجيه الاتهام بالفساد إلى هذه الإدارات ومحاكمة المتورطين فيها وحسب لا يقضي على المشكلة، إذ يتطلب الأمر معرفة الأسباب الحقيقية التي تقف وراء هذا الكم الهائل من التجاوزات والمخالفات الإدارية والمالية من قبل عدد كبير من الموظفين، التي أعتقد أنها تتكرر في مختلف مناطق المملكة، وليست قاصرة فقط على فروع وزارة التربية والتعليم، وإنما تشمل أيضاً فروع الوزارات والمصالح الحكومية الأخرى.

وبالرغم من أن قضايا الفساد الحالية ما زالت منظورة أمام المحكمة الإدارية أو رهن التحقيق، وبالتالي لا نستطيع الجزم بصحة الاتهامات الموجهة ضد المتورطين، فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته، إلا أن العامل المشترك في مثل هذه القضايا هو غموض أدلة الإثبات التي توضح وتثبت عملية الاختلاس أو التزوير أو مخالفة الأنظمة والقوانين.

فبوضوح هذه الأدلة نستطيع معرفة أسباب المشكلة بالتحديد والمسؤول عنها، وبالتالي معالجتها والحد من آثارها، ولكن قد يقول قائل بأن "قضايا الفساد والتحايل تتم في الغالب عن طريق التواطؤ وتجنب الأوراق والمستندات أو التحايل عليها بحيث تكون نظامية، وعليه لا سبيل إلى كشف ذلك إلا عن طريق اعتراف المتهمين، و"الاعتراف سيد الأدلة"، ولكن ماذا عن الطعن في هذه الاعترافات، فكثير من المتهمين يقولون بأن "أقوالهم أخذت بالإكراه"! وبمجرد الإنكار أمام قاضي المحكمة يصبح هذا الدليل ضعيفاً.

بالإضافة إلى ما سبق، فإن معظم التجاوزات والمخالفات في إدارات التربية والتعليم تعتبر في العرف الرقابي من الأموال غير المقيدة وهي ذات أهمية نسبية منخفضة ولا تعتبر مشكلة كبيرة، ومن ذلك على سبيل المثال: التجاوز في الانتدابات، توظيف بعض الأفراد، تجزئة المشتريات.

كما أن إعطاء السيارات من قبل المقاول إلى جهاز الإشراف منصوص عليه في شروط العقد في الماضي قبل أن تتنبه إليها الأجهزة الرقابية فيما بعد، كما أن الصرف غير المنضبط في نهاية كل سنة مالية خشية تخفيض المخصصات المالية مستقبلاً تكاد تكون ممارسة دارجة في غالبية الجهات الحكومية، وقد تستخدمها بعض الجهات كجزء من خطة مكافآت لمنسوبيها.

وكما ذكرت آنفاً فإن غموض أدلة الإثبات والتجاوزات ذات الأهمية النسبية المنخفضة جميعها عوامل تزيد من صعوبة التعامل مع قضايا الفساد، وما دمنا بصدد تقييم إدارات التربية والتعليم، فلا بد لكي تكتمل الصورة من تسليط الضوء على قضية تفويض الصلاحيات من قبل الوزارة لإدارات التعليم، والتي أرى أنها أحد الأسباب الرئيسة للمخالفات في كل من تعليم "حائل" و"الزلفي" ويكون التعامل مع قضايا الفساد المطروحة في القضاء على أساس أنها مخاطر وليست حقائق بسبب عدم وجود أحكام نهائية لها.

فقد جرت العادة في العمل الإداري على تقسيم الوزارات إلى عدة فروع (تسمى مديريات أو مصالح أو إدارات)، يكون لكل منها مدير أو رئيس يباشرون اختصاصاتهم التي يعهد بها إليهم الوزير أو نائبه، علاوة على اختصاصات مناصبهم الواردة في الأنظمة والقوانين، وفي وزارة التربية والتعليم تم إنشاء فروع لها بمسمى إدارات، وتم تفويض صلاحيات لها بهدف تسهيل الإجراءات وسرعة اتخاذ القرارات.

والوزارة تتجه في الحقيقة إلى الإدارة اللامركزية؛ حيث يتم نقل الصلاحيات بشكل واسع من المركز الرئيسي إلى الفروع (الإدارات)، واللامركزية في الإدارة لها ميزات عديدة تؤدي إلى الكفاءة والفاعلية في إتمام الأعمال، ولكن هذه المزايا قد تنقلب إلى العكس وتصبح مصادر خطر، وخاصةً إذا كانت هذه الفروع تعاني من مشاكل يصعب حصرها منها على سبيل المثال ما يتعلق بالموارد البشرية ومدى كفاءتها، وضعف الموارد المالية، ومشاكل تتعلق بالحوافز والترقيات وانعزال مديري الفروع عن سكان المنطقة، ناهيك عن الإشكاليات المتعلقة بنوعية الولاء التنظيمي لإدارة الفروع.

لا أريد أن يفهم من كلامي السابق بأني أنادي بمركزية الإدارة، بل على العكس من ذلك، فأنا من أنصار اللامركزية وإعطاء استقلالية أكثر للجهات الحكومية وفروعها في إدارة أعمالها وأنشطتها، ولكن المشكلة كيف نضمن ألا تتحول تلك الجهات إلى شركات خاصة تدار كما يحلو لأصحابها؟ وبعبارة أخرى هنا أتحدث عن اللامركزية اللامسؤولة.

وفي نظري أنه تم تفويض الصلاحيات إلى إدارات التعليم بدون رقابة ومراجعة، وليس هذا فحسب بل تم أيضاً تفويض المسؤولية (التي لا تفوض) إلى هذه الإدارات، وهذا الأمر لا يقتصر فقط على وزارة التربية والتعليم وإنما أيضاً الوزارات الحكومية الأخرى مثل وزارة الصحة ووزارة الشؤون البلدية والقروية، لذا نجد عند حدوث مخالفات في فروع تلك الوزارات، يتم تحميل كامل المسؤولية على الفروع دون وجود أي دور واضح للوزارة تجاه هذه المخالفات.

وفي الحقيقة أن الوزارة مسؤولة في حالات الفساد والخطأ عند سوء التقدير لتفويض الصلاحيات بما لا يتناسب مع القدرة الفعلية للفروع، ومسؤولة أيضاً عن ضعف الرقابة والإشراف على مباشرة هذه الفروع للصلاحيات المفوضة إليها.

لا شك أن تفويض الصلاحيات وسيلة أساسية تساعد على أداء العمل بكفاءة وفاعلية أكثر، وتسرّع من الإجراءات البيروقراطية واتخاذ القرارات كما تتيح فرصة التعلم وكسب الخبرة للإدارات الحكومية، ولكن نحن في حاجة إلى المواءمة بين الصلاحيات والمسؤوليات وبين المركزية واللامركزية، مع وجود رقابة وإشراف فعّال على ممارسة تلك الصلاحيات في حال تفويضها.