بات في حكم الثابت أن النظام السوري المستبد إلى زوال وأن نهايته غدت مسألة وقت ليس إلاّ.. وهو في وضعه الحالي أقرب إلى محكوم بالأشغال الشاقة منه حاكماً مستبداً ولسوف يسجل التأريخ في صحائفه لطخة قاتمة تحكي مأساة شعب ومصرع حضارة ونكبة وطن؟! ولا ريب أن رواية التاريخ وإن مرغت وجه الطاغية في التراب لن تجد لغة لديها من عبارات التشنيع ما يفي الشعب السوري حقه من الإنصاف، لتغدو الآخرة وعدالة الله ملاذاً يشفي غليل الضحايا مثل حال المضطهدين في شتى أسفار التاريخ منذ بدء الخليقة.

ومن ضجر التأمل في الملهاة أن يتحول المشهد السوري إلى حصار مطبق يسيج الضمير العربي والإنساني بأسئلته الفاجعة عما تعنيه قيم الحق والعدل لدى النظم السياسية، التي جعلت من القطر السوري معملا لاختبار نزعاتها الشريرة بعد انقسامها على نفسها بين متواطئ يمول خزينة الأسد ويغذي قدراته التدميرية وما ينفك يوفر الغطاء الدبلوماسي لجرائم الإبادة الجماعية، وبين محدث نعمة يفرغ عقده النرجسية وفي اعتقاده القدرة على استثمار الجراح وإحالتها إلى مرفأ لاستعراض الفتوة وإقامة صرح نفوذ خادع.. وبين هذين الجناحين تقف أنظمة سياسية أخرى مثقلة بأحمال الحكمة والصبر ولا تتردد عن إغراق الشعب السوري بالغزير من العواطف والكثير المتواتر من بيانات الشجب والتنديد.

وفي خضم الكارثة الإنسانية الجاثمة فوق كل ذرة رمل سورية لا تبدو نهاية الأسد ورموز مجازره مؤشرا حقيقياً على بداية تؤمن الضمادات الصحية المطلوبة لإنقاذ السوريين من مستوطنات الدم والجثامين! ومن غير المستبعد أن تغدو الثورة السورية في أفضل الحالات محصلة استثنائية تتوج مجمل الخيبات التي بلغتها ثورات الربيع العربي، ذلك في أفضل الأحوال كما أشرت، أما إذا أخذنا في الاعتبار طائفة من الاحتمالات الأخرى فإن نزاعات عنيفة على السلطة ستقود الأوضاع إلى ما لا نهاية فور انتقال مقاليد الحكم إلى يد الثوار.

وللناظر في الاعتمالات السلبية لثورات الربيع أن يتمعن طويلا ليرى أي شاكلة تعيسة آلت إليها ثورة الشعب المصري ومدى انفراط عقد الشراكة بين قوى الثورة نفسها، لدرجة أن يغدو إرث الدولة القديم أهم مكسب تدافع عنه قوى التغيير وهي تأخذ موقع المغرر به عند تقويم مسار العملية النضالية لإسقاط نظام مبارك.

إننا هنا لا نضخم صورة المخاطر المحتملة تعبيراً عن موقف مغاير إزاء بشار الأسد ورموز نظامه الدموي، ولكنا نتطارح الرأي على سبيل التحوط، فلطالما كان توقع أسوأ الاحتمالات سبيلا ملائما لتفادي الكثير من نتائج الوقوع تحت طائلة الانتكاسات غير المحسوبة!

ولطالما نكبت شعوبنا العربية والإسلامية جراء التهوين من شأن خطر محدق والاستخفاف بما تنبئ به الوقائع من كوارث قادمة.

وإذا كان الراهن السياسي العربي لا يتيح حلولاً قريبة ولا يبشر بانفراجات منطقية تضع حدا لمسار طويل ومعقد من أزمنة القحط التي مرت بها بلداننا في ظل حكومات متعاقبة غيبت شعوبها وعادت المنطق وشجعت على تنمية جحور الاستبداد؛ فإن دواعي اضطرارية تحملنا على إعادة النظر في طبيعة تقديراتنا لماهية التغيير الذي تحتاجه منطقتنا العربية! وفي تصورنا أن الطريق إلى عملية التحول التأريخي من منزلق الاستبداد والتخلف إلى مشارف الحرية والنماء لا يمكن القيام به عبر ثورات يقودها العقل المأزوم وإنما يكون ذلك ممكناً عـبر برامج تنوير تخاطب العقول لا العواطف، وتنمي القدرات الإبداعية، ولا توظف الثوابت الوطنية والدينية في صراعاتها السياسية.

إن لغة السلاح ومعزوفات القتل اليومي السائدة على امتداد الساحة السورية لا تنبئ بمخرجات تتعاطى مع فكرة المدنية، ولا تهدي لمشروع الدولة المدنية، كما أنها لا توفر فرصاً متكافئة بين قوى المجتمع بمشاربها السياسية المختلفة.. إن أقصى ما تفعله المعزوفات الاستقوائية سواء كان السلاح وسيلتها أم الدين أم الإيديولوجيا أم الأغلبيات هو تفكيك الأوطان وليس توحيدها، وتدمير المدن لا بناءها، وتشييد المقابر لا تعظيم الحياة كاستحقاق إلهي يسترعي حضور الأفكار لا تحريك آليات الدمار.

وما لم يسارع النظام العربي وحكومات العالم لوضع الضمانات الكافية لحماية الشعب السوري من لوثة الاستقواء بالسلاح بعد سقوط الأسد فإن القادم سيكون مروعاً ولا ريب.