أعيد القول إن الإعلام العربي أضحى ساحة مفتوحة للصراعات الإيديولوجية والسياسية، خاصة بين أحزاب دول الربيع. صحيح أن مواقع التواصل الاجتماعي تلعب دورا كبيرا أيضا في هذا الشأن، إلا أن مساحة الفضائيات تبقى الأرحب والأنسب في احتضان رموز كل الأحزاب والجماعات الذين يسعون إلى كسب ولاءات الشارع. المناظرات أو السجالات حول بعض القضايا وبين بعض الرموز لم تعد حكرا على "الجزيرة"، بل أصبحت على الهواء في أي فضائية مصرية.

الآن نستطيع القول إن مساحة الرأي في قنوات "الرحمة" أو "الناس" أو cbc ربما أوسع منها في كل أستديوهات "الجزيرة". الآن أيضا يمكن لكل معارض للنظام السابق في مصر أن يجهر بصوته في أي فضائية مصرية كما كان يفعل مع فيصل القاسم قبل سنوات. والنتيجة الطبيعية لجو إعلامي كهذا أن تتحزب القنوات، وتصنع رموزها، وتجيش أتباعها من المؤيدين. هذه المرحلة الأولية من الربيع تشكل فرصة تاريخية لكل حزب وتيار بلا استثناء، كي يكشف أوراقه كاملة للجمهور.

لكأن الربيع العربي يريد عمدا استدراج كل رموز الأحزاب والمذاهب والتيارات من الظل إلى الضوء.. الجميع منح هذه الفرصة، وعبر الإعلام وحده، الذي يطالبهم بقول ما يريدون، وما ينوون فعله، حتى ولو كانت هذه الأفعال هدم الأهرامات مثلا! أو الدعوة إلى الجهاد ضد الغرب! ولكن بشرط هام ربما لم تعيه هذه النخب جيدا، خاصة الرجعية منها، وهو أنها وحدها في النهاية من يتحمل المسؤولية أمام الجماهير التي بيدها القرار الأخير.

أعاد إعلام الربيع جدلية العلاقة بين الدين والسياسة إلى السطح من جديد، كما أعاد جدلية العلاقة بين الدين والفن أيضا.. فتح الباب لنقد موروثاتنا الفكرية والاجتماعية، من أجل الولوج إلى كنه المفاهيم الكبرى كـ"الحرية" و"الديموقراطية" و"فصل السلطات"، وكأنه يريد تأسيس ثقافات جديدة تقوم على المفاصلة مع الثقافات الماضوية التي لم يعد لها مكان في عقل وقلب جديدين، يحركهما ضغط الواقع، وطوفان العولمة.

هذه المفاصلة يصنعها إعلام "الربيع"، ربما دون أن يعي.