لفترة طويلة من التاريخ، جرى تعريف قوة الدول بما تمتلكه أو تهيمن عليه من ثروات طبيعية، ومواد خام، وقوة اقتصادية وسياسية. وكانت الإمبراطوريات فيما بعد العصر الوسيط تقوم وتسقط، تبعا لتماسكها وقدرتها في الإدارة والحفاظ على عناصر القوة هذه. وكان الصعود يرتبط في الغالب بتشكل نظام عالمي جديد، وغياب آخر، بما يعكس التوازنات القوة الدولية الجديدة.
في هذا السياق، تلعب الحروب، ونتائجها دورا رئيسيا في تحديد، من يملك مفاتيح خزائن الأرض، ومن هي القوة التي تتربع على عرش الهيمنة العالمية، وتصنع قرارات السلم والحرب، ومن هي القوى الآفلة. فالمنتصرون وحدهم يفرضون ثقافاتهم وأفكارهم وتوجهاتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والناس كما يقول العلامة ابن خلدون يتشبهون دائما بعادات وثقافات المنتصرين. وكانت الحروب، في طبيعتها تقليدية. حتى بداية القرن العشرين، حيث استخدمت في الحرب الكونية الأولى، أسلحة متطورة كالدبابات والطائرات. وحسب الإنسان آنذاك، أنه بلغ "نهاية التاريخ"، في صنع آلة الحرب، حتى إذا اندلعت الحرب العالمية الكونية الثانية، تبين أن ما استخدم في الحرب الكونية الأولى، بالقياس مع الثانية، هو قياس السيف والرمح، بأحدث أدوات الحرب.
انتهت الحرب الكونية الثانية، بإنجاز هائل، مخيف ومروع، مهددا بفناء محتم للجنس البشري. وقد تكشف ذلك، بعد استخدام قنبلتين نوويتين، في أواخر أيام الحرب، بحق المدينتين اليابانيتين، هيروشيما ونجازاكي. ويومها أدرك قادة القطب الدولي الآخر، الاتحاد السوفيتي، أن التفجير، وجه تكتيكيا لليابان، لكنه استراتيجيا، كان موجها، وبشكل لا لبس فيه ضدهم.
لقد أراد الرئيس الأميركي ترومان أن يحسم بوضوح هيمنة بلاده على صناعة القرار الأممي، وأن يضع السوفيت في المكان الأضعف من حيث الهيمنة على العالم. سارع السوفيت لفك طلاسم هذا السلاح الهائل. ولم تمض سوى عدة شهور، إلا وهم يعلنون عن تصنعيهم له، وتفوقهم في إنتاجه، ليتحول هذا السلاح، منذئذ، إلى قوة ردع غير قابلة مطلقا للاستخدام. لكن وجوده في ترسانة أية دولة يمثل ضامنا لعدم العدوان عليها من قبل أية قوة خارجية.
وكان البديل عن استخدام هذا السلاح، قد تمثل في تنافس عسكري على محورين: محور تطوير الترسانة النووية، من قبل الأميركيين والسوفيت على السواء، بحيث أصبح في هذه الترسانة ما يكفي لاقتلاع هذا الكوكب الجميل، الكرة الأرضية عشرات المرات.
والمحور الثاني، هو التنافس على اكتشاف الفضاء. وكان السوفيت أول من صاغوا الخطوات الأولى في هذا الطريق، حيث دشنوا أول رحلة نحو الفضاء، بقيادة يوري جاجارين، في أبريل 1961، فكان أول إنسان يتمكن من رؤية الأرض من الفضاء الخارجي. والسوفيت أيضا، هم أول من أرسل سيدة، هي فالينتينا تريشكوفا، في يونيو 1963، لتقود مركبة فضائية، ولتكون أول رائدة فضاء في التاريخ.
بالتأكيد لم تكن إدارة الرئيس الأميركي جون كندي سعيدة بالتقدم السوفيتي في مجال اكتشاف الفضاء، ورسمت استراتيجية طموحة، هدفت إلى النزول فوق سطح القمر. وتمكنت من تحقيق ذلك، في 21 يوليو 1969، عندما حطت مركبة أبولو11 بقيادة نيل أرمسترونج واثنين من رفاقه، فوق سطح القمر. وكانت تلك مقدمة لتنافس على الفضاء، ولخطط عرفت لاحقا بحرب النجوم، لا تزال تبعاتها، تلقي بظلال كئيبة فوق كوكبنا الأرضي.
وبالتزامن مع هذه التحولات، كانت هناك جملة من التغيرات الهائلة في طريقة استخدام السلاح، شملت تطوير المنظومات الصاروخية، والأسلحة البيولوجية، والقوة التدميرية للقنابل التقليدية والعنقودية. تغيرت صورة الحروب من مواجهة مباشرة بالسلاح، إلى ضربات ماحقة تشن عن بعد، ولمسافات تتجاوز آلاف الأميال. وقد دشنت حرب الخليج الثانية، صورة الحروب الجديدة المعتمدة على الحواسب الكبيرة والدقيقة. كانت صواريخ كروز تشن على العراق، من البحر الأبيض المتوسط ومياه الخليج، من فوق الناقلات البحرية والأساطيل العملاقة. وكانت طائرات بي 52 تقلع محملة بالقنابل السجادية من جزر تقع على بعد آلاف الأميال، لتلقي بحممها فوق الأهداف المحددة لها.
لم يعد هناك مكان لصليل السيوف وقعقعة السلاح وصوت البنادق، ولا لصور الدمار التي تلحقها حمم الموت. فليس هناك سوى ألوان براقة، شبهها بعض المحللين بالألعاب النارية، التي تطلق فوق سماء المدن الأميركية، عشية الاحتفال بأعياد الاستقلال.
ما يحتاجه المحاربون لاستخدام هذه الأسلحة المتطورة، هو دورات تدريبية مكثفة على أجهزة الحاسوب، وليس شجاعة عنترة. وفي أسوأ الأحوال، تعلم برمجة هذه الحواسيب. ليدخل في قاموس الحروب مفهوم الأقراص الناعمة. ثم ما تلبث الأمور أن تتطور في هذا السياق، لتتعدى الحرب ضرب آلتها من طائرات ودبابات ومدفعية وصواريخ، وما إلى ذلك إلى ضرب البرمجيات ذاتها، عن طريق حقن البرنامج الرئيسي بالفيروسات القاتلة، القادرة على تعطيل فاعلية مصدر التخطيط للحرب.
ما حدث خلال هذا الأسبوع، من اختراق شبان فلسطينيين لأكثر من ثلاثمئة هدف إسرائيلي دفعة واحدة هو نموذج عملي لهذه الحرب. وقد شمل الاختراق أجهزة أمنية ووزارات ومنشآت مصرفية وأسواق مالية، وتسبب في خسارة الكيان الصهيوني لمئات الملايين من الدولارات.
لقد أدى هذا الحدث لانتقال فعل المقاومة الفلسطينية، التي بدأت رصاصا، وتحولت إلى رمي بالحجارة يقذف بها أطفال فلسطين في انتفاضتهم الأولى، ومن ثم إلى عمليات استشهادية، كما هي في انتفاضة الأقصى، وأخيرا وليس آخرا، إلى صورة ناعمة، لكنها أكثر جدوى وفاعلية. وستستمر أشكال المقاومة، إلى أن تحقق أهدافها، كاملة غير منقوصة، في تحرير كامل التراب الفلسطيني.
عند هذه المحطة، يتغير مفهوم القوة، من شكله التقليدي القديم، إلى مفهوم آخر، حيث العلم والمعرفة هي العنصر الرئيس في تحديد موقع الدول من الصراع العالمي الدائر من حولنا، وحيث تتحرك منظومة البريكس، القوة الصاعدة الجديدة، وفقا للمعايير الجديدة لمفهوم القوة. فهل لنا أن نأخذ مقعدنا في قافلته، قبل أن يفوتنا الركب، فنعيش على هوامش التاريخ؟!!