كنتُ في رحلة عائلية إلى دبي، وزرتُ خلالها مدينة الأطفال الترفيهية المعروفة بـ"كيدزانيا"، والتي عرضت لأول مرة عبر برنامج خواطر على قناة تلفزيون الشرق الأوسط في موسم "كوكب اليابان"، ثم اُستنسخت الفكرة في دبي، ومنذ عامين ومركز مجمع العرب التجاري في جدة يعلن بأن افتتاح فرعها الأول في السعودية سيكون قريباً. فكرة المدينة المبدعة تقوم على أن يعمل الأطفال في وظائف مختلفة، تنمي فيهم روح التحدي والابتكار، وتفتح أمامهم أفكاراً جديدة بشأن ماذا يريدون أن يصبحوا في المستقبل، وفي المدينة مركز توظيف يمنحك شهادات سيرة ذاتية وخبرة، كما يقترح عليك وظائف مناسبة لك. في "كيدزانيا" أيضاً جامعة إذا درست فيها البكالوريوس قبل أن تعمل تحصل على راتب أعلى، وإذا عدت إليها بعد أن تعمل في بضع وظائف ودرست الماجستير سيزداد راتبك كذلك، وهناك مصرف يمكن أن تفتح فيه حساباً لتحول عليه راتبك. باختصار المدينة شيء جميل يجعلك تتمنى لو تعود طفلاً في التو واللحظة، لكن في الوقت نفسه، فإن التجربة التي شهدتها، وجدتها تلخص شيئاً من حالة البطالة لدى الشباب العربي عموماً والخليجي خصوصاً.
تابعتُ بحماس الوظائف التي اشتغل فيها الصغار، من قيادة الطائرة في الخطوط الإماراتية، إلى مسعف في مستوصف، إلى عامل إطفاء يطلق خراطيم المياه ليطفئ حريقاً شب في فندق، إلى موظف في شركة الاتصالات، إلى عامل في مصنع، وعامل توصيل في شركة شحن، وكلها وظائف جميلة جداً، ومشغولة عادة في الخليج بغير المواطنين.
واحدة من أبرز المشكلات التي رأيتها في "كيدزانيا"، والتي هي انعكاس لما يجري على أرض الواقع، موضوع اللغة الإنجليزية التي تقف حجر عثرة أمام معظم طالبي الوظائف من الشباب في مدننا الخليجية اليوم، حتى لو لم تكن الوظيفة تحتاج للغة الإنجليزية! فمع أنها مدينة للأطفال العرب وفي مدينة عربية خليجية، إلا أن العاملين فيها من الآسيويين كانوا يشرحون للأطفال مهامهم المطلوبة بالإنجليزية. سبب هذا إحباطاً للأطفال السعوديين وحتى للأطفال الإماراتيين، أما الأطفال الشقر والحمر فكانوا في غاية السعادة! كان معنا طفل سعودي متفوق جداً في دراسته، بل ومتفوق في اللغة الإنجليزية التي يدرسها في مدرسته السعودية الأهلية منذ السنة الأولى، لكنها ليست مدرسة لغات، فهو يقرأ بها ويتحدث قليلاً لكن ليس بطلاقة بعد. ومع ذلك فسرعان ما خبت حماسه حين شعر بأنه "مثل الأطرش في الزفه" وهم يحدثونه بالإنجليزية الركيكة، وهو شعور لازمه طوال الوقت في دبي، حتى امتعض ابن التاسعة قائلاً: "أنا عربي ودبي بلد عربي.. ليش يبغوني أتكلم إنجليزي؟" والأسوأ من هذا بأن العاملة الآسيوية التي كانت تتعامل مع الصغار، حتى ممن يجيدون اللغة، كانت تفعل ذلك بقرف يدل على أنها لا تحب وظيفتها، وبدأت حماسة الصغير تقل وشعوره بالخيبة يتعاظم. ثم قابلنا موظفاً عربياً تفهم مشكلة الأطفال العرب، وأخذ يكلمهم بالعربية فدبت الحماسة في أرواحهم من جديد، لقد كان يكلمهم بلغتهم، ويعاملهم بلطف وحنان أبوي.
سألته لاحقاً عن مشكلة اللغة العربية، فأجابني بأنه في البداية كان هناك غالبية من الموظفين العرب الذين يحدثون الأطفال بلغتهم سواء العربية أو الإنجليزية، وهم مؤهلون للتعامل مع الأطفال، ثم ارتأت الإدارة لتخفيض التكاليف أن تستبدل هؤلاء العرب بعمالة آسيوية رخيصة، ولا يحب كثير منهم الأطفال، لم يبق سوى أنا وأربعة غيري، وربما سنرحل قريباً، والمشكلة التي ذكرتها تتكرر معنا كثيراً، خاصة مع الزوار من السعودية والذين تقدم بعضهم بشكاوى للإدارة بسبب حاجز اللغة الذي يقلل من متعة أطفالهم لكن دون جدوى. وحقيقة لا أعرف كيف سيكون عليه الوضع في فرع "كيدزانيا" جدة، لكنني متأكدة بأن "كيدزانيا" اليابان تدار من قبل موظفين يابانيين يتحدثون اللغة اليابانية، فتلك أمة تعتز بهويتها، وتبني بلدها بسواعد أبنائها.
مرة أخرى يخذل المال الخليجي أوطانه، فيهمه تخفيض التكاليف على حساب الجودة والهوية وحتى المواطنين. فأن يكون الربح المادي هو الهم الأكبر في مشروع تربوي وتثقيفي للأطفال لهو مشكلة كبيرة.
وهذا بالضبط الذي يحصل في سوق العمل على أرض الواقع اليومي، فقبل أيام كان هناك يوم للمهنة في جامعة المؤسس، وكانت جل الشركات الخاصة تسأل المتقدمات لشغل الوظيفة، قبل حتى السؤال عن الشهادة أو المؤهل الدراسي أو الخبرة أو غيرها عن مستوى اللغة الإنجليزية، فإذا كان الجواب بلا، فهي ترفضهن، فكل الشروط قابلة للأخذ والرد إلا هذا الشرط، فهي لا تكلف نفسها عناء إجراء اختبار تحديد مستوى لهن، ولا حتى وضع الجيدات منهن ممن تحتاج لتقوية في برنامج تطويري للغة خلال فترة التدريب إن كانت وظيفتها فعلاً تحتاج لإجادة هذه اللغة، ثم تراقب تقدمها فيها كما يفعل كثير من الشركات العالمية التي تعمل في بلدان غير ناطقة بالإنجليزية، كالصين واليابان والدول الأوروبية. بل يتم حث الموظف الأميركي أو الإنجليزي، المنقول لهذه البلدان على تعلم لغة البلد الجديد، في حين لا ترغب هذه الشركات أو وكلائها في الاستثمار في الإنسان الخليجي رغم أنها تحقق أرباحها من جيبه.
المشكلة الثانية، والتي رأيت بأن المدينة لا تقدم صورة واقعية عنها للأطفال العرب هي موضوع الشهادات، فليس صحيحاً بأن المرء في الخليج كلما زادت شهاداته ارتفع راتبه، بل إن كثيرا من الحاصلين على الماجستير يدورون في حلقة مفرغة من البطالة، أو يضطرون لعدم ذكر شهاداتهم، ففرصة إيجاد وظيفة جيدة لخريج جديد بشهادة البكالوريوس تفوق بكثير فرص الحاصلين على شهادات أعلى، لا تضحكوا على الصغار فيستيقظوا على واقع مؤلم يهرس أحلامهم.
نتحدث كثيراً عن البطالة في الخليج رغم وجود الملايين من المستقدمين خصيصاً لشغل الوظائف التي يقال لنا إنه لا يتوفر لها مواطن كفؤ، ونرفع لافتات: سوء مخرجات التعليم وضعف المهارات للتبرير، لكننا في الحقيقة نغض الطرف عن كثير من الأسباب التي قد تكون أكثر أهمية من ذلك.. ويعيش لوبي رجال الأعمال وشروطه التعجيزية!