هنالك لغة لا يفهمها إلا القلة.. رمز المحبة والسلام، نفحات من الجنة على أرض الهبات، جمال في صمت الكلام، رسائل فيها غموض، وفيها بيان.. إنها لغة الزهور. وكما يعرف كل محبي الزهور أن لها لغة خاصة بهم وصلت إليهم عبر أساطير من حضارات غابرة، فيها فرح وفيها بهجة وسرور، فيها حزن وفيها خوف وغيرة وغرور.. كل ذلك وأكثر هي لغة الزهور.

منذ بدء التاريخ والزهور تعطي الكثير من المتعة للإنسان بسحر جمالها وروعة عبيرها، فلقد كانت لها معان دينية ورمزية، مثل "عشتار" آلهة الخصوبة، والتي تحولت فيما بعد إلى آلهة الأرض والجمال، فكان يحتفى بها مع ولادة كل ربيع بأن تزين الأشجار بالثمار والورود والأزهار. كما نجد في الكثير من الحضارات القديمة أن جدران المعابد زينت برسومات الورود والأزهار، كما ازدانت بها الحدائق والقصور.. لقد استخدمها القدماء في تزيين كل شيء تقريبا.. الشعر، والملابس، والمجوهرات. كانت في احتفالاتهم من أفراح وانتصارات، حتى التشييع والجنازات. كما نجد أن العرب كتبوا فيها أجمل القصائد منذ نشوء الأبجدية إلى يومنا هذا، ولم لا، فهي لم تبخل عليهم في رسم المشاعر ونقل رسائل الحب والعشق والهيام، بالنصر كانت غارا يكلل رؤوس الأبطال، وبالموت والاستشهاد كانت شقائق النعمان.

أما اليوم فيمكن للمرء أن يجد صعوبة في التعبير عن مشاعره الحقيقية. والأمر ليس غريبا مع بعدنا وتغربنا عن التواصل مع لغتنا الغنية وهجراننا لها. وقد يتساءل المرء: "كيف أقول أحبك" أو "أريد أن أكون معك" أو "أغار عليك"؟.. إذا كان شاعرا موهوبا قد يؤلف أغنية أو قصيدة ويهديها، أو ينقل كلمات لنزار قباني أو ابن زيدون على كرت ويرسله، أو يمكن أن يفعل شيئا أسهل بكثير وأكثر أهمية.. يمكن أن يرسل أو يقدم بنفسه باقة من الزهور.. يقول حلمي الحكيم: "الأحمر مين بِدعه وجْد وهيام الطف يالَطِيف، والأصفر من ريحته غيره وآلام اِرحمْ يا رئيف، والأبْيض دَهْ العِفة رِيحة وغرامْ اقْطُفْ يا شريف رسولِ العشَّاق سميرْ المشتاق الورد يا جمالُو".. إذا لن يُحار، فالأنواع كثيرة، وكل له رسالة وعنوان.. هنالك عدد غير محدود من الورود والزهور: الفتنة، الأوركيت، الأضاليا، المانوليا، البنفسج، الغاردينيا البلدي، الفل، الياسمين (المفضل لدي وشعاري)، زهر النانرج والكباد والليمون، وورد مختلفة مثل: الورد الأبيض البلدي، برج إيفل، السلطاني، المسكاوي، والقرنفل البلدي، وعلاجي في حالات المرض؛ الخزامى، أحب أن أصطحب نفسي في حالة المرض في رحلة خيال من الكلمات فوق حقول من الخزامى، أعتبرها علاجا روحيا، أعود بعدها إلى الواقع وقد تخلل في أعماق وجداني غذاء من الجمال الرباني.

أجمل ما تحب أن تشبه به المرأة هو الورد، وحسب الأساطير القديمة التي وجدتها تتردد على أكثر من مصدر على الشبكة العنكبوتية، وجدت أن غالبيتها تدور حول الصبايا الجميلات مثل: كان يوجد في صقلية فتاة جميلة جدا، رفضت أن تخضع لجبروت "سيرس" إله الدمار والخراب، وفضلت الموت على أن تخضع له، فقررت أن ترمي بنفسها في البحر، وقبل أن تصل للماء تحولت إلى زهرة إكليل الجبل. وأما النرجس فأكيد ولا بد أنكم تعرفونه، لأن الكلمة قريبة من النرجسية؛ حب الذات أو الإعجاب بالذات. والمعنى هنا أتى من قصة شاب جميل اسمه "نارسيس"؛ كان معجبا بانعكاس صورة وجهه على الماء، والتي كان يعتقد أنها فتاة، أحبها وفتن بها، وحين حاول أن يلمسها بالطبع تحرك الماء واختفت، فحزن ومات، ونبتت مكان جسده الفاني زهرة النرجس.. أما المفضل لدي فهو طبعا كل ما يتعلق بالياسمين، لأن زهرة الياسمين هي العبير في أعماق ذاكرتي. تقول الأسطورة الأولى: في الصحراء عاشت صبية جميلة اسمها ياسمين، وفي يوم مر بها أمير أعجب بجمالها، رغم أنها كانت تغطي وجهها بخمار، فتزوجها ونقلها لقصره، وبعد سنوات شعرت بحنين للصحراء، فهجرت أسوار القصر طلبا للحرية التي كانت تمتلكها بعيدا عن القصور، والتجأت إلى واحة خضراء وسط الصحراء حيث خلعت خمارها، وهنا بدأت بفعل تأثير حرارة الشمس تتحول إلى زهرة سميت ياسمين على اسمها. أما الأسطورة الثانية فتقول إنه كان هنالك حبيبان يعيشان على كوكب بعيد، وحصل أن غضبت الأنثى يوما وتركت المكان وهامت بين الكواكب حزينة إلى أن حطت على بقعة خضراء على الأرض حيث جلست تبكي، ومع كل دمعة خرجت زهرة بيضاء، وبعد أن ملأت المكان زهورا تركته إلى مكان آخر.. وصل حبيبها متأخرا ورأى الزهور فعلم أنها كانت هناك قبله ولم يستطيع اللحاق بها، فأخذ يعانق الزهور لعل ذلك يعوضه عنها، وكان كلما لامس زهرة خضعت تحت يده وانحت فلونها، إلاّ زهرة واحدة أبت أن تنحني وبقيت بيضاء شامخة.. هي الياسمين.

أحببت أن أخفف عليكم اليوم وأعيد إليكم طعم ربيع كنا نعرفه وبات غريبا علينا.. ربيع سرق منا وتحول إلى بحور من الدماء حاملا بين ثناياه الكراهية والخيانة والجبن والتعدي والموت في كل صباح ومساء.. المهم ألا ننسى أنه كما في ربيعنا شقائق النعمان، في ربيعنا ياسمين الشام، وسأبقى أردد مع أسمهان: "يا بدع الورد يا جمال الورد من سحر الوصف قالوه عالخد الورد الورد يا جمالو".