( الحوار بين الأديان والحضارات) أصبحت فرضية في العلاقات الدولية حيث اهتمت مؤسسات دولية كثيرة كالأمم المتحدة بفكرة الحوار وحرصت عليها، بينما دعمتها بقوة بعض الدول كالسعودية، ولا مست فكرة الحوار الكثير من المعتقدات الدينية وخاصة لدى المسلمين الأمر الذي قاد إلى كثير من الجدل حول مسائل شديدة الحساسية كتأصيل الحوار، أو رفضه كونه دعوة تبشيرية جديدة، وهناك من ذهب إلى أبعد من ذلك وهو كيف يثمر الحوار بين دول علمانية وأخرى دينية إسلامية، أو كيف يستمر في ظل المطالب المسيحية للمسلمين بفصل الدين عن السياسة.

حول هذا كله حاورت "الوطن" أستاذ الفلسفة والتاريخ الإسلامي في جامعة الملك سعود سابقا وعضو مجلس الشورى حاليا الدكتورعبدالله العسكر:


هناك من ينظر إلى أن الحوار بين الديانات والحضارات أو الدراسات بين الإسلام والمسيحية دراسات وحوار تبشيري في أصله، كيف يمكن أن نضعه في سياقه التاريخي؟

لم أسمع أو أقرأ عند المختصين أن الحوار بين أتباع الديانات يُعد بمثابة دعوة دينية أو دعوة تبشيرية. ذلك أن المتحاورين عادة من علماء الأديان، وهم في الغالب لا يسعون من نقاشاتهم وحواراتهم تحويل محاوريهم إلى دين آخر، بقدر ما يحاولون الوصول إلى حدٍ أدنى من القبول والتعايش. وأنا أعرف أن أغلب النصارى الذين اشتغلوا بالدراسات الإسلامية منذ القرن التاسع عشر الميلادي لم يتحولوا إلى الدين الإسلامي، مع أنهم يعرفونه أكثر مما يعرفه المتحاورون الجدد.

أما من الناحية التاريخية فقد جرت حوارات دينية معمّقة بين المسلمين والنصارى واليهود في الأندلس، وهو ما عُرف بالحوار الديني، وكانت المحاورات تجري في الساحات العامة في قرطبة، ومع هذا فلم يصلنا أن أحد المحاورين استطاع كسب الآخرين إلى دينه.

هل يتعدى حوار الأديان فكرة الصدام وخاصة بعد تكرر الأزمات الفكرية والسياسية، ولماذا مثلت نظرية صراع الحضارات التي أطلقها هنتنغتون أن الصراع محدد بين الإسلام والغرب ويحددها السياسيون الغربيون دائما ضمن هذه الأيدلوجية؟

فكرة الحِوار جاءت أصلاً لتحاشي الصدام، جاءت لتغرس في نفوس الناس من أصحاب الأديان والثقافات قبول مخالفيهم، خصوصاً أن هذا القبول هو مبدأ من مباديء الديمقراطية، وكذلك هو أس من أسس حقوق الإنسان. فإذا كان الحِوار سيؤدي إلى صدام، فهذا خلل في إدارة الحوار، أو قصور من لدن المتحاورين، ذلك أن بعض المتحاورين يأتي في صورة داعية أو مُبشر وهذا ليس حواراً على الإطلاق. قرأت كتاب هنتنجتون في طبعته الأولى، ولا أتذكر أنه قال إن الصراع بين المسلمين والنصارى كأتباع للديانتين. وهو تحدث أولاً عن صراع بين أتباع الديانات وأتباع الثقافات. وهو أيضا تحدث عن مآلات تلك الصراعات. وفي قسم آخر توسع في الصدام بين المسلمين والغرب، وهو صدام في أساسه سياسي، لكن بعض المتشددين الإسلاميين يرونه صراعاً دينياً. ليس هذا بيت القصيد من فكرة هنتنجتون. ذلك أنه يرى أن الإدارة الأمريكية تسعى للسيطرة على بعض المناطق في العالم بشتى الصور، مما يجعلها في نظر تلك الشعوب عدوا لها، وحدث أن وظّفت تلك الشعوب الدين سلاحاً للوقوف أمام السيطرة الأمريكية.

ثم تطور الأمر أن وصل إلى سدة البيت الأبيض الرئيس بوش الأبن الذين يؤمن بخزعبلات دينية تعود إلى إشارات توراتية غير موثّقة عند المختصين في التوراة. ومما نتج عن تلك النزعة أن تشكلت حول الرئيس بوش الابن، كوكبة من المنتفعين، والذين يرون أن مصالح أمريكا وتحقيقها، يشفع لها اعتماد كل الوسائل مهما كانت متعارضة مع الدستور الأمريكي أو مع حقوق الإنسان. لهذا جاء توظيفهم لبعض المفاهيم الدينية أو الأيديولوجية، مما رآه بعض المسلمين أنه عودة لحرب دينية مقدسة. من هنا فقط نشأت فكرة أن صراعنا مع الإدارة الأمريكية صراع إسلامي–مسيحي.

كيف تابعت حوار الأديان من مدريد إلى نيويورك وما بعده، وهل احتفت به المؤسسات العلمية والبحثية والإعلامية في الغرب كما احتفى به السياسيون؟

فكرة حوار أتباع الأديان والثقافات التي أشعل فتيلها الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وهو ملك مصلح وحريص على دينه وأمته، بدأت تؤتي أكلها. أنا معني كثيراً بهذا الموضوع، وقد كتبت عنه منذ بدأ في الأندلس. وتابعت نجاحا بسيطا لهذه الفكرة، ثم سقوطها تحت ضربات المؤدلجين من قبل الطرفين، حتى قيض الله لهذه الفكرة أن تعاود الظهور مرة أخرى على يد الملك عبدالله.

قامت دعوة الملك عبدالله لحوار أتباع الأديان والثقافات على أسس إنسانية، ولهذا اشتد عودها وقامت على ساقها، ثم هي واجهت بعض الصعوبات هنا في داخل المملكة، ولكن سرعان ما تخطت الحدود فتبنتها الأمم المتحدة، ولاقت نجاحاً كبيراً قبل ذلك في مدريد عندما اجتمع علماء من أهل الإسلام والنصرانية واليهودية وغيرهم. وبعد مناقشات مستفيضة تبنوا دعوة الملك عبدالله، ووجدوها خير دعوة تسعى للسلم والأمن وقبول الآخر.

ولم تقف الدعوة عند هذا الحد من النجاح، بل تعدته إلى قبول الملك عبدالله بأهم توصيات مدريد ونيويورك فأعلن وفقه الله تأسيس: مركز حوار الأديان والثقافات في فيينا. وتولت المملكة عبء تأسيس المركز وتشرفت بإدارته بالشراكة مع النمسا وإسبانيا. وجاء اختيار فيينا تحديداً لاعتبارات تاريخية وقانونية لا تخفى على المتابع والمهتم.

لقد احتفى بالمركز وما يحتضنه من أفكار إيجابية كل العقلاء في دول العالم. ولا يخفى على القاريء أن أغلب دول العالم تتولى نهجا من العلمانية والليبرالية، وهو نهج يثمن التعايش السلمي بين أتباع الديانات والثقافات، ويتبنى فكرة قبول الآخر مهما يكن هذا الآخر مختلفاً، لأن هذا الاختلاف هو إثراء للإنسانية. لقد وجدت أن المؤوسسات الفكرية والسياسية في الغرب والشرق تحتفي بفكرة ودعوة الملك عبدالله، وهو أمر متوقع لأن زبدة دعوة الحوار هي التعايش والقبول وهما مفردتان تدخلان في مقدرة خالق الإنسان الذي خلق الناس مختلفين، لحكمة قد نعرفها وقد نجهلها، لهذا علينا قبول خلق الله ودياناتهم وثقافاتهم كما أرادها الله، والله قادر أن يجعل الناس على دين واحد ولا مرد لقدرته.

هل يمكن للحوار أن يؤتي أكله بين دول إسلامية وأخرى علمانية؟ أم أن الغرب يريد فقط تسخيره كذراع دبلوماسية جديدة؟

يمكن للحوار أن يؤتي أُكله بين أطياف مختلفة طالما التزمت تلك الأطياف بثقافة الحوار والتحاور. وشرط آخر هو ألاّ يكون هدف المتحاورين التبشير الديني. وأنا أميل إلى أن صعوبة التحاور بين أتباع الديانة الواحدة مثل الحِوار بين أتباع المذهب السني والمذهب الشيعي، أصعب بكثير من التحاور بين أتباع ديانات مختلفة مثل الحِوار بين أتباع الدين النصراني وأتباع الدين الإسلامي. وعليّ أن أعترف أن الحِوار ليس سهلاً خصوصاً ما يتعلق بالأديان، ذلك أن حروبا ومحنا وصراعاً دموياً نشب بسبب أتباع الأديان لا يمكن نسيانه بسهوله.

الحوار بين دولة إسلامية وأخرى علمانية أسهل بكثير من الحوار بين دولة دينية وأخرى دينية من دين آخر أو مذهب آخر من الدين نفسه. ذلك أن الدولة العلمانية لا تضع خطوطاً حمراء دينية لا يتجاوزها المتحاور. وبالمقابل لا أظن أن ثقافة الحوار والدعوة إليه في هذا العصر مبطنة بأجندة سياسية. بل هي دعوة رأى العقلاء ضرورتها في هذا العصر، بسبب بروز التطرف الديني وما نتج عنه من إرهاب وإرعاب يهددان السلم العالمي وحقوق الإنسان.

يجادل بعضهم أن مسألة حوار الأديان من النوازل الجديدة، فكيف تراها وخاصة بعد زيارة خادم الحرمين الشريفين لبابا الفاتيكان وعقد مؤتمرات الحوار الكثيرة؟

لا أرى أن فكرة حوار الأديان من النوازل الجديدة، بل على العكس كانت ظاهرة الحِوار الديني سمة من سمات ثقافة العصور الوسطى، وكانت نشطة ومنتشرة في مُعظم الحضارات الدينية، ذلك أن سمة الحكومات والدول الدينية هي الغالبة آنذاك. ومع عصر النهضة الأوروبية في القرن التاسع عشر خفت موجة ارتباط الدين بالسياسة، مما أدى إلى بروز الدولة المدنية. وهذا في حد ذاته خفف الصراع البشري المبني على تصورات دينية..

برأيك هل الحوار يجب أن يشمل قضايا سياسية كفلسطين أم يكتفى بالقضايا الثقافية والدينية كالتسامح وحقوق الإنسان وحرية الرأي والشذوذ والإجهاض؟

لا يمكن أن يندرج تحت فكرة الحوار الديني قضايا أو مسائل سياسية. يجب أن يكون الحوار الديني مجرداً من أجندات أخرى، حتى يصل المتحاورون إلى أرضية مشتركة من التفاهم والتعايش. أما المسائل السياسية فهي معقدة بطبيعتها، ولو أدخلنا فيها الجانب الديني لأصبح التعقيد أكبر وأخطر.

هل من نتائج حوار الأديان المأمولة سن تشريعات عالمية تهدف لحماية الأسرة ومحاربة إعلام الضغائن الدينية والدعارة والشعوذة الذي انتشر عالميا تحت مظلة حرية التعبير؟ وتسخير الإعلام لخدمة التقارب بين الشعوب والمحافظة على القيم الأخلاقية والإنسانية؟

مسألة ارتباط الأخلاق بتشريعات دينية لا مدنية مسألة عويصة، وهي مسألة خلافية، باعتبار أن بعض الآراء الدينية تختلف من دين إلى آخر، بل من مذهب إلى آخر. لهذا كله اعتمد المشرع في الغرب على رأي الأغلبية في ما يصلح للمجموع دون مرجعية دينية. وأنا أميل إلى أن هناك مسائل عامة مثل حقوق الإنسان، وهي مسألة لا تختلف فيها الأديان والتشريعات الوضعية. وهناك مسائل فرعية يجب أن تبقى حسب ما يراه كل بلد أو شعب بصرف النظر عن الاختلاف حولها.

طالب بابا الفاتيكان المسلمين بفصل الدين عن السياسة محملا إياهم مسؤولية توتر العلاقة مع المسيحيين، وقد كثرت الكتابات والمناظرات حول العلاقة بين الشأنين الديني والسياسي في التاريخ الإسلامي المعاصر؟ كيف يمكن فهمها؟ ورأيك بأطر هذه العلاقة، وتداولها في حوار الأديان؟

في هذا العصر نحتاج إلى فصل بسيط بين الشأن الديني والشأن السياسي. لا يمكن قيام دولة دينية صرفة في هذا العصر مع تشابك مصالح الناس المختلفة. جرب المسلمون الدولة الدينية الصرفة، حيث لا فصل بين الدين والشأن العام أيام الخلافة الراشدة. حتى إن إمام أو رئيس الدولة هو من يقوم ببعض الأعمال والواجبات الدينية كإمامة الصلاة. لكن تجربة الخلافة الراشدة لم تستمر، حيث قُتل ثلاثة خلفاء من أربعة. ومع قدوم الأمويين تبنى الخليفة معاوية بن أبي سفيان فصلاً مبدئياً بين الإمامة والسياسة، ثم ازداد الفصل لدرجة أن حكومة الأمويين مع الخليفة عبدالملك بن مروان وما بعده أصبحت حكومة مدنية بمقاييس العصور الوسطى.

ولا أعير ملحوظات بابا الفاتيكان أهمية، ذلك أن مؤسسة الفاتيكان لو تُرك الأمر لها لرغبت في عودة الدولة الدينية إلى أوروبا. مؤسسة الفاتيكان نفسها تعاني من الفصل التعسفي بين الدين والدولة. لكنني بالمقابل أفضل الأسلوب الذي أسسه الخليفة معاوية واستمر الحال مع خلفاء بني أمية، وليكن بداية جيدة لتأسيس دول مدنية تحترم الأديان، وتأخذ بالصحيح من القوانين الدينية، ولكنها في المقابل تعلي من حقوق الإنسان ومن الحرية.

أيضا قال البابا إن العلاقات بين المسلمين والمسيحيين صعبة في معظم الأحيان، والسبب الرئيس يرجع إلى أن المسلمين لا يفرقون بين الدين والسياسة؟

ما رأيك وهل يمكن لحوار الأديان صناعة هذا الفرق؟

نعم ما تفضل به بابا الفتيكان يُفسر جزءا من المشكلة. التعصب الديني إسلامياً كان أو غير إسلامي أدى ويؤدي إلى احتقانات وربما إلى أكثر من هذا. والأديان في أساسها جاءت من أجل العدل والمساواة والحرية والسلم والأمن. فإذا جاء من يقول بصحة القتل والتدمير للمخالفين، فهذا ولا شك يؤدي إلى صراعات ومواجهات لا تحمد عقباها. وتصور لو أن دول أوروبا وأميركا تبنت فكرة الدولة الدينية، ماذا ستكون عليه الحال والعياذ بالله. علمانية الدولة في بعض جوانبها رحمة من الله لغير المسيحيين في العالم. لهذا نجد المسلمين واليهود وغيرهم يعيشون في أمن وسلام. في بريطانيا وحدها 1500 مسجد. ولو كانت بريطانيا دولة بروتستانتية لما سمحت ببناء مسجد واحد، ناهيك أن تقبل بالمسلمين أو بأسلمة بعض شرائح المجتمع البريطاني.

هل هناك علاقة تربط بين العولمة ودورها في انتشار مظاهر العنف وبين تعزيز فكرة الحوار؟ ورأيك حول تزايد الشقاق والتوتر بعد أحداث سبتمبر؟

مفردة العولمة مفردة ملتبسة وغير واضحة، ولكنني لا أظن أن لها علاقة بالعنف ذي المصدر الديني. صحيح هناك عنف بسبب الاقتصاد أو السياسة البحتة. وهو عنف يمكن تتبع مساربه وعلاجه. والعولمة في أوسع معانيها مطلب إنساني قديم، لكن صورتها الحالية غير واضحة، ولهذا فكثير من العاطلين عن العمل في الغرب يناهضون العولمة.

ومع ازدياد تجذّر العولمة في مفاصل الاقتصاد ازداد العنف المضاد للعولمة. وما يجعلني أقبل بالعولمة هو أن العولمة الثقافية موجودة ومنتشرة. والحكمة ضالة المسلم إذا اجتمعت مع حرية الاختيار. لأن فرض تفسير اقتصادي أو اجتماعي أمر غير مقبول، فلكل شعب خياره الاجتماعي والاقتصادي. أما وصف بعض الناس العولمة أنها تهدد المكونات الدينية فهذا خوف مبالغ فيه. هي قد تفتح الباب واسعاً أمام خيارات المرء ضمن دينه، بمعنى إرساء قاعدة قبول الآخر المختلف في المذهب أو الدين. وعلينا أن نعيش عصرنا لا أن نرفض كل جديد. ذلك أن سنة الله مستمرة وهي تتلخص في الاختلاف والتباين. والحياة حلوة لأنها ملونة، ولو كانت سوداء وبيضاء لمل الناس ونفروا منها.