تصف الأمم المتحدة أقلية الروهينجا المسلمين في ميانمار (بورما) الذين تعود أصولهم العرقية إلى منطقة البنجال ويبلغ عددهم حوالي 800 ألف بأنهم "الأقلية الأكثر اضطهادا في العالم"، وقد أسفر العنف الطائفي من قبل البوذيين البورميين ضدهم في يونيو 2012 عن وقوع آلاف القتلى إضافة لتهجير ما يقارب من 100 ألف روهينجي من قراهم ومنازلهم لتمتلئ بهم معسكرات لاجئين تفتقد الحد الأدنى من الإنسانية، إضافة للعرقلة الممنهجة لوصول المساعدات الإنسانية إليهم من قبل الحكومة البورمية، وهي العرقلة التي وصفتها منظمة هيومان رايتس ووتش في مارس الماضي بأنها ستجعل قضية الروهينجا تتحول من "أزمة إنسانية" (crisis) إلى "كارثة إنسانية" (disaster) بحلول موسم الأمطار القادم ما لم تتم معالجة الأزمة بصورة عاجلة.

يتواجد الروهينجا في منطقة أراكان (حاليا راخين) غرب بورما على المحيط الهندي، ونما تواجدهم هناك نتاج التمدد الطبيعي للمسلمين على حوض خليج البنجال عبر القرون. وتعود جذور أزمة مسلمي الروهينجا تاريخيا إلى فترة الاستعمار البريطاني حيث اعتمدت بريطانيا وقتها على الأقليات العرقية لمد نفوذها الداخلي في بورما حيث شهدت فترة الاستعمار تحفيز مزيد من الهجرات من مناطق البنجال إلى إقليم أراكان. وفي ثلاثينيات القرن الماضي اشتد الشعور القومي للبورميين البوذيين وصعدت مطالبهم بالاستقلال من بريطانيا مما ولد شعور العداء لكل من الإنجليز والعرقيات الأخرى وعلى رأسها المسلمون ذوو الأصول البنجالية الذين اعتبرهم البوذيون دخلاء في منطقة أراكان، وأطلقت في حينها حملة شعبية بعنوان "بورما للبورميين فقط" تسببت في اندلاع أعمال عنف وقتل طائفية في البلاد.

عندما رسمت بريطانيا استقلال مستعمراتها ضم إقليم أراكان لبورما التي نالت استقلالها عام 1948 دون أن يتم إرساء حل حقيقي لتواجد المسملين الروهينجا هناك، وظهر مع استقلال بورما حركة المجاهدين المسلمين في أراكان التي نادت بضم الإقليم إلى شرق باكستان (بنجلاديش حاليا). منذ استقلال بورما والمسلمون الروهينجا يعانون من العنف الموجه ضدهم وعدم الاعتراف حتى بوجودهم (قانون المواطنة البورمي عام 1982 يحرم الروهينجا منها وهم في واقع الأمر يعدون أشخاصا منعدمي الجنسية).

شهدت بورما في بداية ستينيات القرن الماضي انقلابا عسكريا ظلت تحت حكمه حتى عام 2008 عندما بدأت عملية التحول الديموقراطي التي قادت لانتخابات 2010، وتولى على إثرها ثين سين (وهو عسكري سابق) رئاسة الدولة في 2011. خلال فترة الحكم العسكري كانت بورما إحدى أكثر الدول انغلاقا واعتبر نظام الحكم فيها ديكتاتوريا بامتياز مع سجل شائن في انتهاك حقوق الإنسان وهو ما نتج عنه عزل الغرب لبورما وفرضهم عقوبات اقتصادية عليها، وتزامن ذلك مع التأييد الدولي لزعيمة المعارضة الشهيرة أون سان سو تشي الحاصلة على جائزة نوبل للسلام عام 1991 التي وضعت رهن الإقامة الجبرية منذ 1989 وحتى 2011.

لكن اللافت للنظر هو أن أزمة الروهينجا مؤخرا في 2012 اشتعلت بعد قيام ثين سين وهو أول رئيس ديموقراطي منتخب بالتصريح علنا بأن الروهينجا في بورما يجب طردهم جميعا من البلد وإرسالهم لمخيمات لاجئين، وحتى سو تشي التي تعد أحد رموز النضال الحقوقي والديموقراطي لم تقدم إلا تصريحات خجولة بحق قضية الروهينجا، وقالت في إحدى المرات إنها ليست متأكدة من كون الروهينجا بورميين أم لا، وهو ما يوضح حجم حساسية قضية الروهينجا في بورما على الصعيد الشعبي. وفي يونيو 2012 تسببت شرارة صغيرة بين مسلمين وبوذيين في إشعال عنف طائفي على مستوى واسع في إقليم أراكان توضح التقارير والصور والمقاطع الواردة من هناك حجم المأساة التي عاناها المسلمون من تطهير عرقي وتهجير جماعي وتعذيب وحبس واغتصاب وحتى حالات تعقيم للنساء (وهو ما يرقى بحسب تفسير المادة 6 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية إلى حالة إبادة جماعية).

عندما بدأ التحول الديموقراطي في بورما في 2011 رحب العالم بهذا التقدم الكبير إلى الحد الذي تم فيه ترشيح الرئيس ثين سين لجائزة نوبل لهذا العام (2013) رغم موقفه غير القوي تجاه أزمة الروهينجا، وكذلك الاتهامات الموجهة لتواطؤ الحكومة البورمية مع الرهبان البوذيين المتشددين الذين كانوا خلف عمليات القتل والعنف ضد الروهينجا، ويشير تقرير لهيومان رايتس ووتش إضافة إلى تقارير أخرى إلى أن الجيش البورمي قد يكون مشتركا بشكل مباشر في القيام بعمليات قتل للمسلمين الروهينجا في يونيو 2012. إلا أن انفتاح بورما بعد انغلاق قارب 50 عاما وتحولها الديموقراطي بعد حكم عسكري ديكتاتوري يمثل للغرب جائزة كبرى، ففي مارس 2012 قام رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون بزيارة بورما ودعا من هناك إلى رفع العقوبات الاقتصادية الغربية عنهم، ولم تتسبب أحداث يونيو بعد ذلك بكثير من التغير في النظرة الاستراتيجية الغربية نحو بورما وإن كانوا في المقابل أدانوا أعمال العنف الطائفية ضد المسلمين ودعوا إلى وقفها.

في واقع الأمر لم يتوقف العنف ضد الروهينجا المسلمين منذ يونيو الماضي حينما تصدرت قضيتهم الإعلام والرأي العام العالمي، ولكن في المقابل انخفضت حدة أعمال العنف منذ ذلك الوقت بسبب الموقف العالمي وحاجة الحكومة البورمية في حينه إلى استثمار المكاسب التي حققتها من انفتاحها وتحولها الديموقراطي، وهي المكاسب التي ترجمت بزيارة الرئيس أوباما في نوفمبر 2012 كأول رئيس أميركي يقوم بزيارة رسمية لبورما.

خطاب العنف الطائفي ضد المسلمين لا يزال مستمرا، وهو خطاب يقوده الراهب البوذي المتشدد ويراثو (Wirathu) الذي يصف نفسه بحسب بعض التقارير الصحفية بـ"أسامة بن لادن البورمي". الراهب يراثو حكم عليه بالسجن 25 عاما في 2003 على خلفية تسببه في إشعال عنف طائفي ضد المسلمين، وفي يناير 2012 تلقى عفوا رئاسيا ليخرج بعدها متسببا في إشعال المزيد من العنف الطائفي حيث باتت أفكاره وتعليماته رافدا لحركة بوذية جديدة من التشدد والإرهاب، ليس فقط ضد الروهينجا وإنما أيضا ضد المواطنين المسلمين ذوي العرقية البورمية كما ظهر من أحداث العنف قبل عدة أسابيع في منطقة مندلاي (وسط بورما) التي وقع على أثرها عشرات القتلى المسلمين وتم تهجير عشرات الألوف منهم. مع ذلك يستمر الصمت العالمي تجاه قضية المسلمين في بورما، وإن كانت منظمة التعاون الإسلامي قد بذلت جهودا في هذا الصدد، ومنها مؤخرا إنشاء المركز العالمي للروهينجا بهدف نشر الوعي إعلاميا بقضيتهم والمساهمة في تسييسها، إلا أن الصمت العالمي بشكل عام والغربي على وجه الخصوص تجاه هذه القضية يثير عددا من التساؤلات وبالذات حول فحوى المصالح السياسية الكامنة خلف هذا الصمت، وهو ما يدفع بالتالي إلى التساؤل حول كيفية التعامل مع هذه القضية من منظور مختلف (للحديث بقية).