تهجر كثير من الفرق الشعبية التراثية في بلادنا التعالق مع الألوان الصوتية، لتذهب وتستحضر وتوظف اللوحات الإيقاعية، لما فيها من سهولة الحركة والتطريب الباعث على النشوة والاستمتاع، مما أخفى وغيب موروثاً تاريخياً، بل هو أقدم فن أصيل عرفته الأذن العربية، لما يتمتع به من بحور وأوزان وألحان وأشعار فصيحة ودارجة، وقد أوضح الهمداني في كتابه "صفة جزيرة العرب" وحدد القبائل التي تجيد اللغة الفصحى والتخاطب بها، مما جعلها تتقن إنشاد ونظم الزامل وذكر منها قبيلة "الأزد"، والزامل هو الرجز ووزن هذا البحر "مستفعلن" بأجزائه الستة، يقول سلمة بن الأكوع رضي الله عنه يرتجز في إحدى المعارك في صدر الإسلام: لاهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا. فنزلنْ سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا. وقد قام الباحث اليماني صالح بن أحمد الحارثي بتدوين سفر ضخم عن لون الزامل، ليشمل التاريخ والتحليل والمقارنة لهذا الموروث، وكتب عنه أيضاً الأديب محمد أحمد الشامي والشاعر الكبير عبدالله البردوني وغيرهما من الدارسين والمهتمين بهذا الفن العريق، فالزامل كما ورد في المعاجم والقواميس هو الصوت وجمعه الأزامل، والأزامل كل صوت مختلط، يقول الشاعر: لا يغلب النازع ما دام الزمل إذا أكب صامتاً فقد خمل. ومعنى البيت أن نازع الماء من البئر لا يتعب ما دام يزومل، فإذا صمت فإنه يخمل أي يكسل، ولذا فالعامل يستعين على المشقة بالحداء والزومال والغناء، يظن البعض أن موروث الزامل لم يعد يؤدى إلا في اليمن وجنوب المملكة، ولكن المؤرخ السعودي عاتق البلادي -رحمه الله- أثبت في كتابه "الأدب الشعبي في الحجاز" وفي حديثه عن "الزومالة" فذكر أن أشهر القبائل التي تؤديه في الحجاز هي: "قبيلة حرب وجهينة وبني سليم وقبيلة هذيل وثقيف"، ويشرح البلادي صفة الزومالة بأنها نشيدة قصيرة حضورية تقال في مناسبات الأعياد والزواجات والزيارات، حيث يأتي المدعوون فيقفون في صف مقابل بيوت المضيفين، ينظم شاعرهم الزومالة فيأخذها قومه في غناء جماعي فيخرج المضيفون في صف مقابل صف الزوار، فإذا فرغ الضيوف من غنائهم خرجت منهم سرية من الشباب يحملون البنادق فيمرون أمام صف المضيفين وهم يقفزون في خطوات منتظمة، ويطلقون النار في الهواء ويعودون إلى أماكنهم، يقول شاعر سلمي: سلام يا ربعن يحفظون العهود كسابة النوماس من عهد الجدود. عسى لياليكم سعد يتبع سعود يا ربعة دائم لها في العز ساس. ترى لماذا أهملنا "الزامل" وهجرناه!