حينما قرر مطور الدروس الأميركي "ديل كارنيجي" Dale Carnegie، المولود في 1888 بولاية ميزوري الأميركية، البدء في تناول الجانب الإنساني لدى الإنسان، إنما كان يحاول تقديم مفاتيح عزيمة الإنسان القوية ومقدرته الجبارة على صناعة المعجزات في الحياة، والتي قد يرى البعض منهم أنه من الصعب تحقيقها على المستوى الشخصي الفردي. لم يكن يتوقع أن تحقق دروسه تلك التغيرات الجذرية الكبيرة في حياة الكثير من الذين انخرطوا في مشروعه التنويري ذاك، لكن ذلك حدث بالفعل ولا يزال يحدث يومياً على المستويات المحلية والعالمية أيضا.
"ديل كارنيجي" نفسه لم يكن ذا قدرات خارقة جسدية أو فكرية تميزه كثيرا عن الآخرين، فقد كان من أسرة فقيرة لا تمتلك القوة المالية التي تخوله دخول المدارس الخاصة، بل وكان مصابا بسرطان الدم أيضا. لكن الرجل كان يعلم أن المعجزة الحقيقية تكمن في قوة شخصية الإنسان نفسه، ومدى رغبته في إحداث الفارق النوعي الفعلي، وقد كنت شخصيا أحد أولئك الذين استفادوا من مدرسة السيد "كارنيجي"، وتأثروا كثيرا بكتابيه "دع القلق وابدأ الحياة"، "وكيف تكسب الأصدقاء وتستحوذ على الناس" تحديدا، وهي المدرسة التي اعتمدت على أسلوب وبنية الخطاب الموجه، وسرد قصص وتجارب الآخرين بدرجة كبيرة، وتفكيك تلك التجارب من خلال خطاب سردي هائل، يثير في داخلك كوامن قواك الإيجابية ويوجهها ناحية الوعي الإنساني، ويضعك على طريق التحاور مع المتغيرات والأحداث ورؤيتها من زوايا مختلفة، لتتمكن من تجاوز المعضلات والأزمات، وهذا ما يُسمى بتطوير الذات.
ومن أميركا ذاتها شدني على مدار الأسابيع الماضية، حجم الاهتمام والإعداد الكبير لمؤتمر الشباب السعودي من الدارسين المبتعثين هناك، والذي أقيم برعاية الملحقية الثقافية السعودية بواشنطن، في الخامس من شهر أبريل الجاري 2013 على مسرح جامعة "فرانكلين روزفلت" بمدينة شيكاغو، لعقد فعاليات اللقاء الأول الذي تُقيمه منظمتهم الجديدة، التي أطلقوا عليها اسم "متجاوز" Outlier، وتهدف هذه المنظمة الفتية الشابة - التي أتمنى أن تتحول إلى العالمية في أسرع وقت - إلى تقديم نوعية - جديدة قديمة – من التوعية بالقدرات الذاتية لدى الفرد، وما يمكن أن تصنعه تلك القدرات في محيطها وخارجه أيضا، معتمدة في ذلك على تقديم نماذج من الخبرات والحكايات الشخصية الناجحة لبعض من المبتعثين إلى الجمهور، وتوعية الشريحة الاجتماعية الشابة بما تستطيع إنجازه لنفسها ومجتمعها، والسعي لوضعه ضمن المراتب المتقدمة على المستوى الإنساني العالمي. وهي بالتأكيد نتيجة أفكار نخبوية تستحق منا كل التقدير والاحترام، وقبل كل ذلك الدعم الكامل من قبل أصحاب القرار.
تقدم منظمة متجاوز نفسها على صفحتها بموقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" على النحو التالي: "أن يكون "متجاوز" مشروعا حاضرا فاعلا ومؤثرا، في عملية ارتقاء الفكر والوصول للريادة والفعل الحضاري، ونأمل أن يكون تأثيرا مباشرا على الطلاب السعوديين المبتعثين في الخارج" ويكشف القائمين على منظمة متجاوز على أنها: "مشروع يسعى للمساهمة في ترسيخ التجاوز والتميز، كقيم مؤثرة على السلوك ومفاهيم تصوغ منظومة فكرية متجددة، تنهض بالإنسان صعوداً وصولاً لتجربة بشرية راقية متناغمة مع القيمة ومجاوزة للمادة، وستكون أولى الوسائل للوصول لترسيخ أهدافنا وحضورنا هو مؤتمر الأفكار والتجارب.. مؤتمر الأفكار والتجارب الأول في شيكاغو الذي تنظمه منظمة متجاوز، هو حدث فريد نوعي هدفه التركيز على نشر ثقافة النجاح والإبداع، وبث روح إيجابية بين الطلاب السعوديين المبتعثين، عن طريق إبراز بعض الأفكار المتميزة والتجارب الناجحة والتي من شأنها إضافة قيم اجتماعية وثقافية سامية، تقوم هذه الفعالية على كوكبة متميزة من مختلف المجالات والخبرات، لتتحدث في عدة مجالات تهم الطالب المبتعث منها:
الإعلام و"الميديا"، الكتابة والتأليف، الكوميديا والمسرح، التطوع والمسؤولية الاجتماعية، المشاريع والقيادة، الفن والموسيقى، وغيرها من المجالات..".
لم أندهش شخصيا حينما هاتفني من أميركا ذات مساء قبل ثلاثة أسابيع من الآن (المهندس/ يحيى فقيهي) - أحد شباب منظمة متجاوز - ليحدثني بفرح عارم عن المنظمة وبرامجها ومشاريعها وخططها، واستعدادات أعضائها لتقديم الوجه المشرق للشباب السعودي والعربي للمجتمع الأميركي والغربي، الذي تأثرت نظرته كثيرا للإنسان السعودي والعربي، بعد أحدث الحادي عشر من سبتمبر 2003. ومد يد العون والمساعدة للشباب السعودي والعربي من المبتعثين للدراسة في أميركا، وهو هدف نبيل وسام يعكس الفكر النير الذي ينطلق منه هؤلاء الشباب الرائعون، وخطوة عظيمة على طريق بناء الإنسان الإيجابي المؤثر في مجتمعه وأمته.
ومن على صفحات صحيفة الوطن أحييهم وأشد على أيديهم، وأدعوهم لتوسيع دائرة عناصر هذه المنظمة التنويرية، لتشمل كافة الأطياف العربية دون استثناء، وفتح أبواب اللقاءات الشبابية لخلق أجواء ومساحات تواصلية أكبر، فالعالم اليوم لم يعد متباعدا كما كان في السابق، وباتت ثقافته ترفض التحجيم والإقليمية ولا تخضع لمعايير بعينها، كما أتمنى أن تحظى فكرة المنظمة باهتمام المسؤولين هنا، وتفعيل أنشطتها على مستوى الجامعات السعودية، لتستمر عملية بناء عقول شابة متجاوزة، لمجتمع متجاوز، وصنع أنموذج تنمية بشرية متجاوزة، وهو ما نحتاج إليه لمقارعة المستقبل ومتغيراته بالتأكيد.