منذ "قصائد من الجبل"، سنة 1403هـ، حتّى "لكِ انتظر البحر"، سنة 1434هـ، وعبر سبعة دواوين، بقيت تجربة الشاعر محمد بن عبدالرحمن الحفظي جديرة بالاهتمام؛ فهو يسير على خطٍّ واحد لا يحيد عنه، منذ حرفه الأوّل، إلى زفرته الشعريّة الأخيرة.
الحفظي أحرق المراحل كلّها، وبدأ شاعراً ناضجاً، ذا لغة خاصة، وتجربةٍ شعوريّة فريدة، ثم استمر كما هو، لا يتراجع إلى الخلف، ولا يذهب إلى مساحات خارجة عن النطاق الذي عُرف به؛ فلم تختلف "أخاف.. أخاف"، التي كتبها قبل أكثر من أربعة عقود، عن "وخزٌ يقتطف الرحيق"، التي كتبها قبيل إصداره الأخير.
من المعلوم أن دراسة التطور الذي يطرأ ـ بمرور الزمن - على أساليب الشعراء، أو التغير الذي يطرأ على منطلقاتهم الفكريّة، تعد مادة خصبة للنقاد، لكننّي أجزم أن الباحث عن شيءٍ من ذلك عند الحفظي لن يظفر بما يحقّق أمله، أو يقيم بحثه، لأن محمد الحفظي وُلد شاعراً مكتمل الأدوات، فلم يتعثّر في البدايات، ولم يمارس التجريب اللغوي البدائي، ولذا لم يضع أمام المتلقّي ما يجعله يجد فروقا، أو ما يجعل الحفظي نفسه يخجل من نصوصه الأولى، كما هو الحال عند كثير من المبدعين في أكثر من جنس أدبي.
في المقابل؛ فإن انعدام فرصة دراسة المنحنى الأسلوبي للحفظي عبر 35 عاما أو أكثر، تفتح الباب على البحث في أسباب الثبات، وعوامل استقامة المنحنى، سواء أكان ذلك من خلال دراسة المؤثرات الثقافية التي أنضجت تجربته الشعريّة منذ نصوصها الأولى، أم من خلال دراسة المعجم الشعري، وعناصر بناء القصيدة، ومصادر الصورة، من أجل الوصول إلى إثبات هذه الرؤية حول الثبات، أو نقضها، وإن كنت أجزم ـ ثانية ـ أن إثباتها أقرب ـ إلى أي ناقد ـ من نقضها أو نفيها.
في ديوانه الأخير: "لكِ انتظر البحر"، يواصل الحفظي التفرّغ لذاته، ويبقى منقطعاً إلا عن تجربته، فلا نرى المحيط يظهر إلا خفيّاً في لفظةٍ شاردة مثل: "وشيل"، أو صورة تحتمل حضور المحيط، ولا تحتمله، مثل: "وجه حوريّة من سموّ المكان"، لتتراكم ألفاظ: "التماهي، والرحيق، والأفق، واليقين، والنهايات... إلخ"، وكأنّها علاماتٌ فارقة نعرف بها معجم الحفظيّ الشّعري، إلى الحد الذي يجعله حاضراً في قصيدته، ومقروناً بها، حتى لو غاب اسمه، وتلك مزيّة تهبه طريقه وطريقته، وتجعله علامةً ليس لها شبيه غير قصائده التي باتت بالنسبة إليه كالبصمات؛ لا تختلط بغيرها، ولا تخلط شعره بشعر غيره.
وكأني بالحفظي يؤيد ما أقوله، عندما سرد عناوين دواوينه في خاتمة الديوان الأخير، سرداً يشي بأنها حياته، وبأنها كلها ديوان واحد ناضج ذو سمات متطابقة. يقول: "ومثلما رصدتُ الحلم.. وتجاوزت.. من غبار الجسد.. إلى الاشتعالات.. والتّباهي..والبحر المنتظر، أبقى....".