يحرص كل مسؤول أن يبقى في منصبه مع أقل قدر ممكن من الانتقاد لأداء إدارته أو وزارته أو الجهة التي يقوم عليها، ويحرص كل مسؤول أيضا على أن يسمع عن أدائه ما يثلج الصدر، لأن مؤدى ذلك هو الاستمرار مدة أطول وخدمة الوطن أكثر فأكثر، والسبيل لذلك واحد من اثنين: إما أن يقل في العمل والظهور وإما أن يكون من المجيدين المتقنين من وجهة نظر الشريحة المناط به خدمتها.
ربما في زمن انحصار القنوات الإعلامية في الإعلام الرسمي كان من الممكن أن يسعى المسؤول لأن لا يصل عن عمله إلى وسائل الإعلام سوى ما يتحدث به هو أو من ينيبه، كما أن وسائل التعبير عن الرأي المقابل كانت محدودة في ذات القنوات الإعلامية ولهذا لم تكن المساحة كافية لأن تشمل جميع الأصوات لتعبر عن رأيها، ولهذا فإن تلك المساحة والقنوات لم تكن تسمح لأن ترينا الوضع على حقيقته أو أن تمكننا من تقييمه بالشكل الصحيح مهما كان حرجا وحساسا.
في السنوات الأخيرة تبدل الحال وأصبح فضاء العالم الافتراضي متاحا للجميع للتعبير عن رأيه، وكأن زاوية الهايدبارك الأحدية (ركن الخطباء) التي كانت تتيح للعامة أن يتحدثوا فيما يشاؤون كيفما يشاؤون يوما واحدا في الأسبوع قد كبرت لتشمل العالم كله على مدار الساعة دون قيد أو شرط، أصبح لكل شخص أن يقول ما يشاء كما يشاء في أي وقت يشاء، وأصبح غاية ما هنالك من قيود على هذا الفضاء الرحب هو ما في يد الإنسان ذاته من قيم أخلاقية، وما يفرض عليه القانون احترامه عند التعبير والحديث إن كان هنالك قانون في هذا الباب.
من خلال هذا الفضاء الرحب عبر "تويتر وفيس بوك وواتس أب ويوتيوب" وغيرها من البرامج والتطبيقات، أصبح من المستحيل على المسؤول أن يتعامل مع الانتقادات ومع التعليقات المرتبطة بأدائه بذات العقلية التي كان يتعامل بها في زمن قنوات الإعلام الرسمي المحدودة والمحصورة، وغدا من المستحيل أن يتم حصر هذه القنوات وحجبها جميعا أو منع الناس من استخدامها، فكلما غاب تطبيق أو موقع ظهرت العشرات غيره، إذاً ما آلية التعامل مع هذه المواقع ومع الإعلام الجديد عموما؟
في تصوري الخاص هنالك عدة أمور مهمة لابد أن تؤخذ بعين الاعتبار للتعامل مع الإعلام الجديد وهي كالتالي:
1) يجب على كل مسؤول أن يجود في أداء مرفقه وأن يرتقي بالخدمات إلى المستوى الذي يدفع الناس لشكره بدلا من انتقاده، فالعامة مرايا المسؤول الأصدق سواء انتقدوا أداءه أو شكروه عليه.
2) يجب أن يدرب المسؤول نفسه والمتحدثين عن مرفقه على آليات التعامل مع الإعلام الجديد، فبدلا من صيغة النفي والتكذيب أو رمي التقصير على جهة أخرى كما كان الحال قديما، الذي أصبح لا يغني ولا يسمن من جوع، فإن الأجدى والأجدر أن يقر المسؤول بخطئه إن أخطأ وأن يصدق مع الناس في كيفية تعديل هذا الخطأ، وأن يجود أداءه كما أسلفنا.
3) رفع مستوى الثقافة لدى العامة بحيث تتعلم الفرق بين حرية التعبير عن الرأي وبين إساءة الأدب في التعبير، وأن تتعلم الفرق بين نقد الواقع وبين اختلاق القصص والأراجيف ووضع البهارات على الحادثة الصغيرة لتكبر وتعظم وتنتشر الإشاعات والأكاذيب، فبقدر ما يكذب الناس بقدر ما يضيقوا على أنفسهم مساحة التعبير المتاحة.
4) وضع الأنظمة والقوانين ذات العلاقة بحيث يعرف كل شخص حقه ومستحقه وحدوده، ويعرف كل شخص إلى أي مدى يمكن أن يمد ذراعه وإلى أي مدى يمكن أن يمد أنفه بحيث لا تضربه يد أخرى لتجاوز أنفه الحدود المتاحة، ويجب أن تكون تلك الأنظمة مبينة للحدود دون إثقال في القيود، ويجب أن تكون المخالفات والعقوبات المتعلقة بها واضحة بما لا يدع مجالا للخطأ في التطبيق وفي إيقاع العقوبة، ويجب أن تفرق تلك الأنظمة أو القوانين بين قداسة الموضوع وبين قداسة الذوات، فلا يؤخذ انتقاد المسؤول مهما علت مرتبته على أنه إرجاف وإساءة وتجاوز وإن كان الموضوع المطروح يستحق النقد فعلا، ويجب أن تكون إجراءات التحقيق ومدد التوقيف واضحة المعالم؛ بحيث يكون توقيف الأشخاص المسيئين أو المستحقين للتحقيق وفقا لنظام الإجراءات الجزائية من حيث مدد التوقيف وآليات التحقيق.
في عالم الإعلام الجديد أصبح من المستحيل أن نتحكم في المحتوى وفقا للطرق التقليدية، وأصبح من غير اللائق أن نتعامل معها بذات العقلية والمنهجية التي كنا نتعامل من خلالها مع قنوات الإعلام الرسمي، ولهذا فلا بد من مواكبة هذا الانفتاح والإفادة منه بدلا من مواجهته ومحاولة إيقافه.
موجز القول؛ إنه بقدر ما تمنح من مساحة وبقدر ما تقنن أداءها وتثقف أشخاصها بقدر ما تتحكم في تلك المساحة وتوجهها التوجيه الصحيح، وبقدر ما تتعامل مع الجديد بعقلية القديم بقدر ما تكون التبعات سلبية والنتائج عكسية.