لم يسهم الحجر على الأفكار وتقنين ومراقبة الكتاب المطبوع في العالم العربي في "حماية" المجتمعات من "الأفكار الدخيلة" كما يصفها عرابو المنع والرقابة. بل أثبت الواقع اليومي أن هذا المنع أدى إلى نتائج عكسية تماما؛ فعلى سبيل المثال، بدلا من تأليف كتاب يكشف بالوثائق والأحداث المدونة حقيقة جماعة أو مجموعة أشخاص أو حتى أفراد، لهم أهداف ومصالح خاصة، أو كتاب يسرد التاريخ كما هو دون زيادة أو نقصان. كانت الكتب السائدة هي تلك التي مل منها الناس لتكرار وتقليدية ما تطرح، فلم تعد تجذب أحدا، فهي السبب الحقيقي للعزوف عن القراءة. ولذلك أصبح بإمكان أي صاحب هوى أو مصلحة أن يجذب حوله الأتباع والمريدين بخطبة عصماء أو منشور متواضع الطباعة، لكن السر في الطرح الجذاب للعواطف قبل العقول. وقد رأينا نتائج ذلك على أرض الواقع، وما زالت مجتمعاتنا تعاني من تبعاتها.

لكن وللحق فإن "ثورة" التأليف التي بدأت في السنوات الأخيرة والتي توثق لأحداث مهمة مر بها وطننا، وخصوصا تلك الأحداث المثيرة للاهتمام لقلة وغموض ما كتب عنها، كذلك تركيز بعض الكتب على تفاصيل نشاط بعض الحركات الأيديولوجية ورموزها الذين يصنفون الآن في عداد "المعتدلين"، فتحت الأبصار والأذهان على وقائع وأدوار صدمت الكثير من المتابعين. وفي ظل هذه الصدمة، يبدأ التحصين الفكري والاجتماعي للأجيال الجديدة، مما قد يحمي الكثير من أفرادها، من خطر الانزلاق لأي دعوات دون التحقق منها ومن أصحابها.

في اعتقادي، أن أهم تلك المؤلفات هي التي تناولت أشخاصا وحركات تلبست رداء الدين. حيث يذهل القارئ عندما يطالع الكثير مما كان يحدث وراء الكواليس من قبل أشخاص كانوا وما زال بعضهم لاعبين أساسيين في التحولات الاجتماعية والثقافية، وربما تسبب البعض الآخر في اضطرابات ومشكلات طائفية وفئوية ومناطقية ثم تحولهم إلى ضفاف أخرى قد تبدو صافية وبراقة أمام الأعين.

إن الكتاب الجاد سيبقى هو الرهان الحقيقي، فليست القراءة مجرد تهج لأحرف متراصة، بل إن كنهها الأصلي هو أنها فهم الحياة وتهجي دهاليزها. ولذلك فإن وجود تلك المؤلفات على الرغم من الملاحظات التي تقال حول بعضها وخصوصا في جانب مصادر المعلومات، أمر بالغ الأهمية للأجيال الصاعدة ، فهي تساعد هؤلاء الشباب المتحمس للأفكار، على فهم تطور بعض القضايا الفكرية والاجتماعية وحتى السياسية.

أخيرا.. عندما يمنع القلم، ستطلق جيوش الوهم والتدليس لتمارس رقية العقول على طريقة "الشعوذة".