يُعرّف الفقر بعدم القدرة على تحقيق الحد الأدنى من مستوى المعيشة، ويُنظر إليه على أنه حالة يعجز فيها الإنسان بسبب مجموعة من العوامل الموضوعية والذاتية عن تلبية حاجاته المادية والمعنوية في ظل نظام اجتماعي وثقافي محدد، فالفقر هو الوجه الآخر لصور التمايز الاجتماعي واللامساواة وانعدام العدالة.
وقبل الحديث عن الفقر وآثاره على المجتمع، يجدر بنا أن نشير إلى أمور ثلاثة غاية في الأهمية، أولهما: أن العدالة الاجتماعية فريضة فرضها ديننا وشرع ما يضمن تحقيقها بنظام اقتصادي فرض الزكاة وحث على الصدقة ونظّم إدارة المال في المجتمع لينتفع به الأغنياء والفقراء على حد سواء، وفي التنزيل العزيز ما يؤكد أن بقاء المال دولة بين الأغنياء، واستئثارهم به دون الفقراء، مؤذن بالعقاب الشديد: "ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم".
وثانيهما: أن ذم الفقر ومحاربته لا يعني ذم من يتصفون به من الفقراء.
وثالثهما: أن من الفقراء من استطاعوا أن يتحدوا صعوبات كثيرة بثقتهم بربهم وإيجابيتهم ودأبهم في الحياة بعزيمة وإرادة، إلى أن أنعم الله عليهم جزاء وفاقاً لسعيهم، بخلاف آخرين رضخوا لظروف الفقر وداروا في دائرته ولم يكسروا طوقه.
وفي مقالي هذا سأركز على تأثير الفقر على أثمن وأغلى ما يملكه أي مجتمع.. ألا وهو الطفل. ولا بد أن نوضح هنا أننا عندما نتحدث عن تأثير الفقر على الطفل، فإن هذا الفقر لا ينحصر في شح المال والغذاء ورداءة المسكن، لكن في شح التربية النفسية والسلوكية وضعف الرقابة الأسرية وتدني مستوى الوعي، مما يجعل الطفل عرضة لمواقف سلبية في سن مبكرة، مثل أن يعيش ثقافة الشارع من سلوك منحرف أو عدواني ويكون ضحية لتحرشات واعتداءات جنسية لا تُكتشف، إضافة إلى السرقة والتدخين والمخدرات والتدني الأخلاقي والجهل.
دماغ الطفل يتكون ويتشكل في السنوات الأولى من عمره، بل يُنظر للبيئة والظروف الخارجية على أنها التي تعمل على تكوين دماغ الطفل، فاختلاف شخصيات الأطفال هو اختلاف أدمغتهم التي تحدد سلوكهم وطريقة تفكيرهم المستقبلية، علماً أن الجينات الوراثية تتفاعل وتتجاوب مع هذه الظروف والبيئة والأحداث، فعلى سبيل المثال يمكن للبيئة السّيئة أن توقظ وتنشّط جيناً وراثياً مرضياً ساكناً وضامراً ليصبح نشطاً ويؤدي إلى المرض ويسهم في تشكيل الدماغ بالطريقة المرضية غير الصحيحة التي تبقى مع الطفل مدى الحياة.
ففي دراسة حديثة بجامعة ستانفورد الأميركية تأكد بما لا يقبل الشك أن الفقر يغير من طريقة تكوين وتشكيل الدماغ بصورة واضحة جداً. وفي دراسة أخرى قام بها العالم الاجتماعي روبرت سابولسكي، بين أن الضغوط المزمنة التي يمر بها دماغ الطفل الفقير لفترة طويلة ومتعاقبة تؤدي إلى ضمور في أجزاء من الدماغ وتبقى مدى العمر. ويمكن معالجة هذا الضمور نسبياً إذا انتُشل الطفل في مرحلة مبكرة من العمر من البيئة الفقيرة مادياً ومعنوياً وتعليمياً، وهذا ما بينته الدراسة التي تمت في رومانيا، حيث تم نقل مجموعة من الأطفال من دور أيتام متدنية الجودة إلى بيوت لتعزيز الرعاية الأسرية، مما حقق تغييراً إيجابياً نسبياً.
بل هناك دراسة حديثة وخطيرة بينت أن بعض وظائف الدماغ في طفل ابن التاسعة أو العاشرة الفقير، مقارنة بنظرائه من عوائل أسر الدخل المتوسط يعادل الفرق بين دماغ أصابه ضرر جراء الإصابة بجلطة في الدماغ في الفص الأمامي مقارنة بدماغ سليم، وهذا الجزء من الدماغ هو الذي يتحكم في التفكير المعقد وحل مسائل ومشاكل معقدة، وهذا ما أكده مارك كيشياما عالم النفس من جامعة كاليفورنيا بيركلي.
وبناء على توصيات المؤتمر الثاني عشر لاتحاد الأطباء النفسيين العالمي الذي عقد باليابان فإن السبب الأول للأمراض النفسية التي تعتبر أكبر المشاكل الصحية انتشاراً في العالم في القرن الواحد والعشرين هو الفقر. وقد توثقت هذه العلاقة الطردية بين الفقر والمرض النفسي، فكلما زاد الفقر زاد المرض النفسي بصوره المختلفة التي من أهمها القلق، الاكتئاب، الفصام، الوسواس القهري والإدمان.
وتشير الأدلة إلى أن أدمغة الأطفال الفقراء تختلف عن نظرائهم من الطبقة المتوسطة بأربعة أنواع من الأحداث والتفاعلات البيئية والظروف الحياتية: الأولى: التعرض للسموم بأنواعها المختلفة، سواء كانت سموماً في الغذاء كالأغذية الملوثة أو سموماً في الهواء، مثل التلوث البيئي، دخان المصانع، عوادم السيارت، وكلها لها تأثيرات على التطور الصحيح للجهاز العصبي والدماغ.
والثانية: التعرض المزمن للضغوط النفسية التي تؤدي إلى ارتفاع هورمون الكورتيزول بشكل حاد لفترات طويلة، وهذا الهورمون يؤدي إلى تأثيرات سلبية على الدماغ.
والثالثة: حرمان الطفل الفقير في البيئة الغنية من المحفزات التي تربي المهارات وتصقل الملكات، وينتهي الأمر بدماغ الطفل الفقير بمستوى معرفي متدنٍ ومهارات محدودة، بل وجد أن الآباء الفقراء بشكل عام يستعملون كلمات أقل تعقيداً، وهم أقل اهتماما بفتح موضوعات جديدة للتحدث مع أبنائهم، ونسبة القراءة لأطفالهم أقل من نصف نظرائهم من الطبقة متوسطة الدخل.
والرابعة: ضعف العلاقات العاطفية والاجتماعية نتيجة ضعف دعم الوالدين وعدم اهتمامهم بإنجازات أطفالهم.
الفقر من أشد وأفتك الأمراض التي تصيب المجتمعات، والدراسات كلها تؤكد بما لا يقبل الشك أن السنوات الأولى في حياة الطفل ستشكل وتكون دماغه الذي سيعمل به ما تبقى من عمره، وبذلك فالفقر يقتل أهم وأغلى وأجلّ ما في هذه الأرض وهو عقل الطفل.. عقل رجل ومرأة المستقبل، العقل الذي به مناط التكليف.. الذي يميز الإنسان عن باقي الكائنات.. الدماغ ذلك العضو الذي جعله الله يتشكل بالطبيعة والبيئة والأحداث، وبذلك فالفقر يضعف هذا العقل. بل يقتل هذا العقل ويقتل إبداعه ويجعله عرضة للأمراض النفسية والعقلية مدى الحياة، ويكون التأثير أشد وأنكى في مجتمع فيه فقر مدقع وثراء فاحش وبذخ باستهتار.
نعم الفقر يقتل العقل، يقتل أغلى ما في الإنسان، وبقتل الطفل يُقتل الجيل القادم، بل تُقتل أجيال، ولذلك قال عمر بن الخطاب "لو كان الفقر رجلا لقتلته". نعم حكم عمر عليه بالإعدام، جرمه جرماً وطبق عليه أشد أنواع الأحكام وهو القتل، لأنه يعرف ما يفعله بالإنسان، ولذلك فإن الشرع الإسلامي غلظ في سرقة المال العام وجعلها من صور الفساد في الأرض ورخص للحاكم المسلم بالتعزير في الأحكام إلى حد القتل والصلب ليكون السارق من المال العام عبرة لغيره.. لماذا؟ لأن المال المسروق يسرق معه أجيالاً وأجيالاً، بل ويقتل فرص تشكيل وتكوين وتطوير أدمغة أطفال اليوم.. جيل الغد.