قلت هذه العبارة المستدعاة قبل عشرين عاما، مطالبا باستزراع هذا الصوت والاحتفاء به، واكتشاف أقاليمه بكل ما يختزنه من تجارب ومعارف، فعندما تحتسي صوته بأذنيك يسري في داخلك طعم النعناع، وعذوبة البحر ونشوة النوارس، في صوته تسكن مواويل العائدين من رحلة الغوص، وأناشيد الرعاة مع إشراقة الصباح، في فمه تستيقظ اللغة وتستحضر الأبجدية رشاقتها، وتغتسل الكلمات الخضراء بعبق الضوء والندى، بدر كريم ليس حنجرة تهطل بصفاء النبرة، وتوظيف المعرفة وخصوبة الإحساس فقط ولكنه تجربة نادرة، يتلبسها الوعي وتتسلح بالثقافة الرصينة، وكثقافة التوصيل المشهدي المدرك، هناك أصوات تطربك وتسليك ولكنها لا تتعدى حدود المتعة، والانفعال الموقت واللحظي، ثم لا تلبث أن تضمحل في الهواء دون أن تترك أثرا أو تثير حسا، قبل خمسين عاما كنت أصغي إلى بدر كريم بكل ما يختزنه من جماليات الحوار الباسق، ومعمارية الحضور المبهج، وهو يحاور رموز الثقافة والفكر والفن كل مساء، بغية مقاربتها وإظهار مكامن جوهرها، وملامسة حياتها ومتعلقات فضاءاتها الذهنية والشعورية، كان ذلك في برنامج "ضيف الليلة" في رمضان المبارك، كم كنت أعاني حين تباغتني موسيقى "رقصة الأطلس" ويتضاءل صوت الرادي "أبو بطارية" مما يستدعي شحنها في اليوم التالي عند مهندس "المواطير"، ويترتب على هذا السفر من القرية النائية إلى المدينة، والتي أصبحت اليوم حيا من أحياء مدينة أبها، بعد أن جذبتها تبدلات الحياة وسطوة الحضارة، وامتصت المدينة عذريتها وكائناتها الربيعية، كريم مدرسة إذاعية مرموقة، فهو كالطائر الذكي لا يكرر غناءه، بعد أن تلاشى كثير من الأصوات كما تتلاشى مدينة من الشمع، بالأمس البعيد حدثت وزير الثقافة والإعلام حين زار صحيفة الوطن، وسألته: لماذا لايعود جيل النجوم إلى الشاشة؟ فالمذيع لا يتقاعد ولا يطاله سن اليأس، وطالبته أن يمنح هؤلاء الرواد فرصة قراءة نشرات الأخبار ولو نشرة في الأسبوع، لتصغي أجيال اليوم إلى: محمد صبيحي ـ بدر كريم ـ علي النجعي ـ غالب كامل ـ عبدالرحمن يغمور ـ حسين نجار ـ ياسر الروقي ـ بندر الدوخي ـ علي داوود ـ محمد الرشيد، وغيرهم من الأصوات المبثوثة بالأمس في الفضاء ليتحول الأثير إلى عرس من الضوء، وسلم من سلالم الموسيقا ذات الإيقاع الطروب والنغمات الفارهة، إن علينا واجب الشكر وحق التقدير لهؤلاء، وأن ندعو المولى أن يتغمد من رحل من الإعلاميين بواسع رحمته ويسكنهم فسيح جناته، وأن يشفي من وقع فريسة المرض، راجيا أن يحتفي مهرجان الجنادرية ويكرم الأحياء منهم والأموات، كفضيلة سامية وعرفان نبيل.