خبر جميل طالعتنا به الصحف قبل يومين، يتحدث بحب وفخر عن قرب بدء التشغيل التجريبي لساعة مكة المكرمة مع بداية الأسبوع الأول من شهر رمضان المبارك المقبل "منتصف أغسطس الجاري"، على أن يتم الانتهاء من كامل أعمال المشروع بعد ثلاثة أشهر من بدء التشغيل التجريبي. الصورة المرفقة مع الخبر مهيبة، الساعة ذات الأربع واجهات، يعلوها لفظ الجلالة، ويتوسطها أكبر شعار وطني سعودي، غطيت واجهة الساعة المزخرفة بـ 98 قطعة فسيفساء زجاجية ملونة، عقارب الساعة صنعت من مادة الكاربون فايبر، نظام الإضاءة يستخدم مليوني مصباح من نوع إل إي دي، 20 مانعة للصواعق و 800 ذراع ثابت تقوم بحماية المصابيح من صعقات البرق. هذ المشروع الكبير في رمزيته، هو جزء من مشروع عملاق أقل رمزية يشمل عدداً من الأبراج المحيطة (أبراج البيت) وهي سبعة أبراج متصلة ببعضها واعتبرت أضخم برج في العالم وإحدى أطولها بارتفاع 579 مترا. والأبراج السبعة هي الصفا، المروة، هاجر، زمزم، مقام، صاوة، والبرج الملكي. من الحقائق الأخرى المرتبطة هي أن المشروع يضم أطول ساعة في العالم ولفظ الجلالة ومساحة بناء تصل مليونا وأربعمئة ألف متر مربع يمكنها استيعاب35 ألف شخص عند اكتماله. كما يحتوي المشروع أيضاً على مركز تجاري، ومتحف، ومرصد فلكي، ومركز للأبحاث الفلكية، ومركز طبي، و900 موقف سيارات، 15 موقفاً للحافلات، و33 ألف مصلٍ إضافي، و 385 مصعداً، وأخيراً 53 ألف متر مكعب من الماء.
ويلحظ القارئ بلا شك أنني أسهبت كثيراً، بل ربما أكثر من اللازم، في عرض الأرقام الكبيرة في هذا المشروع العملاق، ولكني تعمدت ذلك لسبب، إذ إنه أمام هذا الإسهاب لا بد أن تتجاذب القارئ صورتان من المشاعر. الصورة الأولى هي الانبهار بهذا المشروع الكبير وعلى وجه التحديد بالمعلم الأساسي المتجسد في ساعة مكة المكرمة. أما الجانب الآخر للصورة فهو الخوف المتنامي من أن تتحول المنطقة المحيطة بالحرم المكي، إن لم تكن قد تحولت بالفعل، إلى واجهة تجارية تروج للنمط الاستهلاكي التجاري المنفلت من عقاله، باعتباره نموذجاً أوحد لنمط الحياة العصرية. فالاستهلاك في عصرنا الحاضر أصبح هو الصورة الطاغية في كل أمور الحياة، والقواعد التي تنظم النمط الاستهلاكي أضحت هي ذاتها القواعد التي تنظم وتحكم قضايا تطوير أشكال الخدمات وأنواعها. أما أن يتمدد نمط الاستهلاك التجاري ليصبح النمط المنظم في الخدمات والأمور الروحانية، وأن تصبح القواعد التي تنظم النمط الاستهلاكي هي القواعد الناظمة في تطوير الخدمات اللازمة للجوانب الروحانية في جوار الحرم المكي الشريف فهذا منطلق الخوف والتخوف، والجدير بالتأمل.
عند تجولي في بنوك المعلومات حول هذه المشروع العملاق، والذي هو جزء من مؤسسة وقف الملك عبد العزيز طيب الله ثراه، عرجت على موقع فندق "قصر مكة رافلز" Raffles والذي يشكل جزءاً من مشروع أبراج البيت، في شبكة المعلومات الإلكترونية ممنية النفس بحجز غرفة تطل على الحرم أقضي فيها ليلة أو ليلتين من ليالي رمضان المبارك. هالني كيف تعرض المعلومة التسويقية بشكل لا يختلف في كثير أو قليل عن الطريقة التي تعرض بها المنتجعات في كافة أنحاء العالم: الجناح المطل على مكة له سعر، الجناح المطل على الحرم له سعر أعلى، أما الجناح الذي يطل على الكعبة المشرفة فله سعر أعلى و أعلى. الحجز في العشر الأواسط لا يقل عن ثلاث ليال، والحجز في العشر الأواخر لا يقل عن عشر ليالٍ. خدمات خادم طعام، رسوم خدمة، رسوم "بقشيش" ... حسبت حساباتي بسرعة لأجد أن ما يرغب فيه المسلم من قضاء بضع ليال بالقرب من بيت الله في هذا الفندق قد يتطلب استثماراً يفوق مئة وخمسين ألفاً من الريالات!
المحصلة اللازمة للبحث عبر شبكة المعلومات في محاولة حجز موقع في أواخر شهر رمضان المبارك في هذا المعلم الجديد هي أن ليس للمسلم متوسط الدخل نصيب من هذا المشروع الخيري إذا ظلت الأسعار محكومة بمنطق العائد على الاستثمار ومنطق المدة اللازمة لاسترداد الاستثمار وغيرها من مفاهيم الاستثمار التجاري البحت، وإذا كان تسويق النمط الاستهلاكي يخضع لذات المعايير التي تحكم المنتجعات الترفيهية. نحن إذن أمام حقيقة ماثلة للعيان لا تتأثر بأفكارنا المثالية أو رغباتنا، ولا نملك منها فراراً: نحن في عصر تحكمه قوانين الاستثمار وأنماط الاستهلاك التجاري وقواعد التسويق: من الانتخابات حتى العبادات. تقبل الله صيامكم وقيامكم مع قرب حلول شهر رمضان الفضيل حيثما كنتم.