إن موضوع المنافسات والمشاريع الحكومية حديث ذو شجون يطول شرحه ولا يمكن أن يتسع هذا المقال له، و يكفي أن أقول هنا إن كل مواطن أصبح يلمس خطورة القصور الإداري والمالي في المشاريع الحكومية.

وفي الآونة الأخيرة زاد التركيز على مشكلة تعثر المشاريع والحديث حولها على الصعيد الرسمي والإعلامي، وخصصت لبحث هذه المشكلة ندوات وملتقيات، وأسهب الكتاب والمختصون في الكتابة عنها، ويكاد يتفق الكثير من المختصين على أن السبب الأبرز لهذه القضية يكمن في (نظام المنافسات والمشتريات الحكومية)، سواءً من ناحية بعض نصوص مواد النظام أو من ناحية التطبيق في الواقع العملي، والتي أثرت بالسلب على المشاريع من حيث تدني مستوى الجودة والتأخر في التنفيذ.

وبالرغم من أهمية الحلول والتوصيات التي طرحت في موضوع "تعثر المشاريع" والجهود المبذولة من قبل بعض الجهات الحكومية في عملية تفعيل الرقابة والإشراف على التنفيذ، وبالرغم أيضاً من زيادة الإنفاق المالي على مخصصات المشاريع بعدما كان بعض البيروقراطيين يلقون باللوم على قلة الاعتمادات المالية؛ إلا أنه في الواقع العملي واجه العديد من الجهات الحكومية عقبات لم تكن في الحسبان عند تعاملها مع تعثر مشاريعها الحالية أو مع طرح المشاريع الجديدة.

ومن أبرز هذه العقبات: 1- محدودية الشركات والمؤسسات المتقدمة للمشاريع في بعض مناطق المملكة. 2- ارتفاع العطاءات المتقدمة للمشاريع بتكاليف تفوق المعتمد في الميزانية الأمر الذي أدّى إلى عدم تنفيذ آلاف المشاريع بسبب إلغاء المنافسات وإعادة طرحها من جديد، أو بسبب طول إجراءات التفاوض مع وزارة المالية لزيادة المخصصات المالية.

الإشكاليتان السابقتان في رأيي قد تكونان مقصودتين ومفتعلتين، وذلك بسبب ضخامة الإنفاق المالي على المشاريع.. صحيح أن بعض الجهات الحكومية تواجه تحديات إدارية صعبة تتمثل في عدم وجود آلية واضحة لتحديد الأسعار السائدة في السوق ومعرفة مدى عدالتها، بالإضافة إلى عدم وجود مراجعة فنية لتكاليف المشاريع، وبالتالي قد تتعامل هذه الجهات بسذاجة مع ارتفاع التكاليف المالية، إلا أن هناك من يستغل مثل هذه الظروف سواء من الموظفين داخل الجهات الحكومية نفسها، أو من قبل الشركات والمؤسسات المتعاملة معها. لا شك أن هناك سلبيات عديدة تقترن بتنفيذ المشاريع، وهناك الكثير من الحلول والتوصيات لمعالجتها. ومهما تحدثنا عن سلبيات نظام المنافسات والمشاكل الإدارية المصاحبة له، تبقى مشكلة واحدة بالغة الخطورة وهي الفساد الذي ينسف جميع الجهود المبذولة في معالجة سلبيات تنفيذ المشاريع الحكومية.

للأسف ما زال هناك قصور في التعامل مع قضايا الفساد في المشاريع إلى درجة أن البعض يمارس فساده بثقة وطمأنينة، وذلك لعلمهم أن فسادهم لن يكشف بسبب ضعف الجهات الحكومية والأجهزة الرقابية وخاصةً في الأمور المتعلقة بالتكاليف المالية والممارسات التجارية.

إن الإنفاق الحكومي الضخم على المشاريع يغري الكثير من الشركات والمؤسسات بتبني ممارسات غير مشروعة في سبيل تحقيق أكبر قدر ممكن من الأرباح من خلال الفوز بهذه المشاريع بأي وسيلة كانت. ومن هذه الممارسات على سبيل المثال تواطؤ بعض الشركات لزيادة أسعار المشاريع من خلال عقد اجتماعات واتفاقيات فيما بينها لتحديد الأسعار والاتفاق على تقاسم الأسواق على أساس المناطق الجغرافية والعملاء، وبالتالي وجود كيان احتكاري متمثل في الشركات المتقدمة في المنافسات الحكومية. وبالتالي فإن مثل هذه الممارسات الاحتكارية تؤثر على المنافسة المشروعة. ومهما كان نظام المنافسات والمشتريات الحكومية قوياً فلن يستطيع التعامل مع مثل هذه الممارسات، وهذا الأمر يؤدي إلى التحكم في الأسعار والمبالغة فيها، وإجبار الجهات الحكومية على التعامل مع شركات معينة، والقبول بأداء سيئ لتنفيذ المشاريع.

لا أستطيع القول إن الكيان الاحتكاري للشركات يعتبر ظاهرة في العمل الحكومي، ولكن هناك ممارسات موجودة بالفعل على أرض الواقع، وهي ما تفسر في نظري أحد الأسباب الرئيسية في ارتفاع تكاليف المنافسات ومحدودية تقدم الشركات لها، والسؤال المطروح هنا: كيف يمكن كشف هذه الممارسات الاحتكارية ومن المسؤول عن كشفها؟ وهل هناك قوانين وتشريعات تمنعها؟

إن الإطار النظامي لتطبيق سياسة المنافسة في المملكة يتمثل في نظام حماية المنافسة ولائحته التنفيذية الصادر عام 1425هـ، والذي يهدف إلى حماية المنافسة العادلة وتشجيعها ومكافحة الممارسات الاحتكارية، وبناءً على هذا النظام تم تشكيل مجلس حماية المنافسة برئاسة وزير التجارة والصناعة وعضوية ممثلين من وزارة المالية ووزارة الاقتصاد والتخطيط وأعضاء من ذوي الخبرة والكفاءة، ومن أبرز اختصاصات المجلس: تحليل وتقييم هيكل الأسواق للتأكد من عدم وجود ممارسات مخلة بالمنافسة، وإجراء البحث والتقصي وجمع الاستدلالات والتحقيق والادعاء، والبدء في إجراءات الدعوى الجزائية ضد المخالفين لأحكام النظام. وهذا الاختصاص بالذات يؤدي إلى زعزعة وتفكيك الكيانات الاحتكارية وبالتالي يؤدي إلى تقديم أسعار مستقلة وعادلة من قبل الشركات، ويؤدي أيضاً إلى ترشيد الإنفاق الحكومي وإنجاز المشاريع في مواعيدها المحددة وبالجودة المطلوبة.

وحين تضعف الرقابة على المال العام فإنه يصبح مالاً سائباً. والمال السائب يثير الانتباه ويثير شهوة زيادة الأرباح، لذا هناك حاجة إلى تطوير المؤسسات القضائية والرقابية على نحو يشكل رقابة فعالة على التصرفات المالية المنحرفة، بحيث تتم مشاريع التنمية بحد أدنى من الفساد.

ومجلس حماية المنافسة بوضعه الحالي يعاني من قلة الموظفين المختصين وزيادة الأعباء الإدارية عليه مع انتشار الشركات في مختلف مناطق المملكة، ويحتاج إلى المزيد من الدعم المالي والإداري ووضع آلية واضحة للكشف عن الممارسات الاحتكارية وتفعيل التنسيق مع الوزارات الحكومية عند ظهور شكوك في وجود مثل هذه الممارسات، والنظر في تحويل المجلس إلى هيئة مستقلة وإنشاء محكمة تجارية من مهامها النظر في قضايا مخالفات نظام حماية المنافسة.