ابتداء يجدر التنبه إلى أن "الربيع العربي"، هو تعبير وافد، استخدمه الغرب، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية، أثناء الحرب الباردة مع الكتلة الاشتراكية، التي قادها الاتحاد السوفييتي. وقد تكرر استخدامه، عند كل محاولة، تقود بها أي من بلدان أوروبا الشرقية، للفكاك من ارتباطها بالاتحاد السوفييتي، أو محاولة الانتقال من النظام الاقتصادي المعتمد على هيمنة الدولة على وسائل الإنتاج، إلى الحرية الاقتصادية.
فهناك ربيع بودابست، في الخمسينات، حين حدث التمرد في المجر على النظام الاشتراكي. وهناك ربيع براغ، إثر وصول الكسندر دوبتشيك لزعامة الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي، حيث تبنى برنامجا إصلاحيا، في بلاده، وقد اعتبره الغرب مفجرا لربيع براغ. وفي حالتي بودابست وبراغ، انتهى الربيع، باجتياح عسكري سوفييتي، أنهى محاولات الفكاك عن سيطرته، وأعاد تروس السير إلى ما كانت عليه.
وإثر انتخاب ميخائيل غورباتشوف، أمينا عاما للحزب الشيوعي، طرح برنامج الكلاس نوت "الشفافية"، الذي أباح النقد بشكل علني، للحزب الشيوعي، ولسياسات الدولة. وكان من نتائج ذلك، أن قويت نزعات التحرر، في جميع دول أوروبا الشرقية. وقد تجلت نتائج هذا التطور، في قيام الشباب في ألمانيا الغربية بهدم حائط برلين. وانفرطت السبحة، بسقوط كل الأنظمة الشمولية في أوروبا الشرقية، وانفصال الجمهوريات التابعة للاتحاد السوفيتي، وحصولها على العضوية في الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، لتلحقها روسيا التي أسقطت الشيوعية، وشكلت اتحادا روسيا، يعتمد القيم الديمقراطية الغربية. وقد وصف الغرب تلك المرحلة بربيع أوروبا الشرقية.
الربيع العربي إذاً، كتعبير وافد، يحمل معاني متضمنة، تعكس موقفا عدائيا من قبل الغرب لهذه الأنظمة التي أسقطت بعد اندلاع شرارة الربيع الأولى في تونس، ومن ثم مصر، فليبيا واليمن، وسورية... وبعض هذه الأنظمة كانت حتى لحظة سقوطها حليفة للإدارات الأميركية المتعاقبة. لكن في السياسة ليست هناك صداقات دائمة، بل مصالح وصراع إرادات. المعنى المتضمن الآخر، للربيع، إذا ما جرت مقاربته بالأمثلة السابقة، هو توصيفه، بأنه تحول من قيم الأنظمة الشمولية للقيم الغربية.
ذلك لا يعني رفضا لحاجة البلدان العربية للتغيير، بما ينسجم مع تحولات العصر. ذلك بالتأكيد شيء محمود، لكن حين تكون نتائجه تفتيت الكيانات الوطنية، ونشر الفوضى، وغياب الأمن والاستقرار، فإن هناك ما يستدعي موقفا آخر منه. إن استعادة مكانة الإنسان والارتقاء بها، والتأكيد على المواطنة، وسيادة دولة القانون، وصولا إلى التحولات في سياق يتطلع إلى الأعلى، وليس في اتجاه ناكص، يغوص في التاريخ السحيق، ويغيب قيم المدنية والحضارة؛ هي ما حرك هذا الربيع. وليس من شك، في أن عوامل موضوعية وداخلية، أسهمت في الانفجار الذي مرت به البلدان العربية، في السنتين المنصرمتين، أدت إلى حالة الاحتقان. لكن هناك أيدي خارجية أسهمت فيه, استغلت حالة الغضب، ومهدت الطريق وقدمت الدعم والمساندة لقوى بعينها، ضد قوى أخرى.
وإذا ما تابعنا التطور السياسي في البلدان العربية، في العقود القليلة الماضية، سيتأكد لنا أن استهداف الأمة، يشكل جزءا رئيسيا من استراتيجيات الدول الكبرى المعلنة. ومع ذلك، لن يتمكن الغرب، مهما كانت قدرته، من فرض إرادته على المجتمعات الإنسانية، ومنها مجتمعاتنا، لن يستطيع ذلك لأن مصادر القوة ليست جميعها في يده، ونحن نمتلك جزءا هاما وحيويا من تلك المصادر.
كما أن عالم القرية الإلكترونية الصغيرة.. العالم المتشابك، وثورة الإعلام والمعلومات، خلقت حقائق جديدة، أهمها، بلوغ الشفافية مرحلة غير مسبوقة، فقد جرت تعرية سياسات الجميع، بالداخل والخارج. وكشفت بوضوح كذب الغرب وزيف ديمقراطيته. فهذا الغرب، غير المعني، بتطوير مجتمعاتنا، يسهم عن عمد في حرف مسارات التنمية المستقلة لبلدان العالم الثالث، ولا يتردد عن إيقاظ الغلو والتطرف بجميع أشكاله، ومد يد العون له، بما يخدم مشاريعه التفتيتية في منطقتنا.
لقد كان المؤمل، أن تسهم التحولات الأخيرة، في تحرير المواطن العربي من الخوف، وأن يصبح قوة مؤثرة في مسار الأحداث، لكن حرف الحركة الشبابية عن توجهاتها الأصلية وأهدافها النبيلة، قد أدى إلى نتائج كارثية. وليس من شك، في أن حالة التجريف السياسي التي شهدتها في العقود الأخيرة، معظم بلدان "الربيع العربي"، قد أدت إلى اختطاف ثمار الحراك السياسي، والقفز إلى السلطة، من قبل قوى سياسية، لم يكن دورها أساسيا بالحراك، في لحظة انطلاقه.
لكن المؤمل أن تكشف الحقبة القادمة عن بعض إيجابيات هذا الحراك. فالتغيير نحو الأفضل، قادم لا محالة، تفرضه قوانين التاريخ، التي تؤكد أن الإنسان يسير بثبات إلى الأمام، وعوامل موضوعية أخرى، تأخذ مواقعها في سياق تاريخي صحيح. لقد أدركت دول المنطقة حتمية مشاركة مواطنيها في صناعة القرار، وأضحى مطلب قيام دولة القانون، مسلمة رئيسية ضمن قائمة مطالب الإصلاح السياسي بالبلدان العربية.
ووجود أمتنا العربية، هو حقيقة موضوعية أكدتها التطورات الأخيرة. فقد أكدت الأحداث وجود لغة مشتركة، وهموم واحدة وتحديات واحدة وآمال واحدة أيضا. وقد استثمر الجيل الجديد، التقنيات العلمية الجديدة ووسائل الاتصال الحديثة، ومواقع التواصل الاجتماعي، ليحقق أهدافه. لقد بتنا أكثر قربا من بعضنا، وأكثر معرفة بهمومنا وتحدياتنا. التأثير والتفكير المشترك.
علينا أن نثق بالأمة وبمواريثها الدينية والحضارية، إن القراءة المعمقة للتاريخ تكشف أن هذه الأمة واجهت تحديات جساما، وأنها في كل مرة، تستلهم من إرثها ومخزونها الحضاري محفزات للنهوض، فهي كطائر الفنيق، تذروه الرياح، ثم ينبثق مجددا ليحلق بجناحيه. وهذه الأمة، مهما زلت بها المقادير، ستنهض مجددا، وتواصل دورها الإنساني، ولن تكون التدخلات الخارجية، ومن أي مصدر، سوى محطات عابرة، ما كان لها أن تأخذ مكانها، لولا إخفاقاتنا في التنمية وهشاشة مكوناتنا البنيوية، وضعف هياكلنا الاجتماعية، وجميعها ليست عناصر أصيلة في التاريخ، بل حالات محرضة على الفعل، ومن ركامها يبزغ الفرح، كما من رحم الألم يولد الأمل.