إن كانت الفنون عامة تقوم على تجسيد الأفكار وإيقاف الزمن لبرهة والاحتفاظ به وتخليده وتخليصه من حالة الصيرورة المنطلقة للأمام باستمرار، مخلفة وراءها الماضي بدون التفاتة؛ أقول إن كانت الفنون العامة تعمل هذا، إلا أن السينما باتساعها وتسخيرها لأشكال الفنون المختلفة في قالبها، فإنها الأكثر قدرة اليوم على تخليد لحظات زمانية معينة.

من هذه اللحظات الهامة، لحظة الفنان التشكيلي الإيطالي أميديو موديغلياني التي أثارت الوسط الفني كله في العقدين الأولين من القرن العشرين. هذه اللحظة خلدها الفيلم Modigliani الذي يحمل نفس اسم هذا الفنان ويقوم ببطولته النجم اندري جارسيا. موديغلياني، اليهودي الأصل، المنتقل إلى باريس من إيطاليا اضطرارا، يمثل في حياته شعلة سرعان ما احترقت وانتهت. كان يجب أن ينتهي موديغلياني بسرعة، فقد كان يعيش في عالم غير العالم الواقعي، في عالمه الخاص الذي يراه الآخرون جنونا. كان يجب أن ينتهي موديغلياني سريعا، لأنه لم يكن قادرا على العيش وفق الشروط المسبقة، كان فاشلا في التكيّف، أو ربما أنه قد امتلأ رفضا واحتجاجا في حياة تقوم في أجزاء كبيرة منها على التسليم والسكينة. إذا كان هناك من يرى الفن تعبيرا عن التوتر الإنساني وعن القلق الوجودي الذي يفتك بمجموعات من البشر، فإن موديغلياني حالة تدعم هذا التأويل بشكل عميق.

يرتكز الفيلم على قصة حب، قصة حب شاملة متسعة، إحدى إضاءاتها قصة حبه للمسيحية هيبوتيرنن، هذا الحب الذي يضرب عمق الأعراف والتقاليد في ذلك الوقت، الوقت الذي لم تكن إشكالية التمايز الديني قد حلت. ولكن هل كانت هذه هي ضربة موديغلياني للأعراف والتقاليد الوحيدة؟ لا، فقد ضرب الفن التشكيلي بصدمة كبيرة حين جرد الجسد البشري ووصل إلى أعماقه. وهذه قصة حب موديغلياني الكبرى. حبه للفن، بل عيشه الفن، فلا يمكن تصور الفصل بينهما.

يبدو لي موديغلياني، أحيانا، كالفراشة المحتجة على النار لتعلن نهايتها في رحلة خاطفة وسريعة من الرفض والصراع الحاد. إذا كان داروين يخبرنا أن الاستمرار في هذه الحياة يقوم على قدرة الكائن على التكيف والتغلب على مآزق العيش، فإن موديغلياني لم يجد له مساحة تحتوي وجوده، دون أن تزيده رهقا، إلا مساحة الفن. في هذه المساحة حبّ وكره وغضب وفرح، في هذه المساحة قال وفعل. رحل، ربما، ليقول لنا إن الفن لم يعد كافيا، أو ربما أن الفن لم يعد فنّا، ربما كان هذا قريبا لتفسير علاقته المأزومة مع جماعة الفن في باريس بيكاسو.

أجواء الفيلم هي أجواء باريس سنة 1919، أجواء الفنانين الكبار، الأجواء التي يتسيدها بيكاسو وسيطرت عليها ثورة من المدارس الفنية المتنوعة، يمكن القول إن المخرح نقلنا إلى هناك بشكل رائع، شوارع باريس الخلفية والأزقة الجانبية، في هذه المساحات عاش موديغلياني رغم موهبته التي تؤهله إلى أن يكون أحد نجوم الصالونات الثقافية الباريسية الباذخة، ولكن هذا لم يحدث. فموديغلياني له مزاج آخر في الحياة، مزاج نشأ على الصعلكة واستمر عليها. لا أحد يجادل في موهبته حتى بيكاسو المتغطرس، ولكن الموهبة ليست كل شيء، فالنجاح عملية تحتاج إلى إدارة، وهذا ما كان يفتقده هذا الفنان المفعم بمفارقة الواقع والخروج عليه.

تسحرني أفلام السير الذاتية للرموز في كل المجالات، ربما لأنها تقربني من هؤلاء وتعطيني الفرصة أن أتتبعهم في كل لحظاتهم الخاصة والعامة، في أوقات القوة والضعف، في النجاح والفشل، في النشوة والإحباط. خصوصا إذا كنا نتحدث عن أفلام السيرة الواعية التي لا تقدم صورة أسطورية عن البطل، كما في بعض الأعمال العربية، بحيث يظهر لنا البطل بصورة غير بشرية، بدون أخطاء وبدون نواقص، أعمال هدفها الدعاية والترويج، أما أفلام السيرة الواعية فهي تتعالى على الدعاية بقدر ما يكون هدفها هو الاقتراب من الشخصية موضوع الفيلم، وهذا ما حدث مع فيلمنا هنا الذي قرّبنا كثيرا من الفنان التشكيلي الإيطالي أميديو موديغلياني. مايك ديفز، مخرج الفيلم، قام بالعمل احتراما لموديغلياني، لا ليستعمله في دعاية ما، بل ليقترب منه ويحاول أن يفهمه. من أعمال بهذا المستوى تبدو لنا الأعمال الأيديولوجية التي تستخدم شخصياتها للدعاية أعمالا بعيدة جدا عن الاحترام.

لا أظن أحدا يريد أن يكون موديغلياني آخر، أو حتى قريبا منه، فقد كان وترا حادا وعلامة على قلق الكون. الأقرب أن يهرب الناس من موديغلياني ليراقبوه من بعيد، فهو كالشمس أو كالقبر، حقيقي جدا ودعوة صادقة ومخلصة للتوتر. الحل الوحيد معه هو أن نحيله إلى حكاية حدثت يوما ما بعيدا عنا. حكاية نحكيها لنقول لنثبت بعدنا عنها، وربما لنقول أيضا إننا منها وهي منّا. لا أجد هنا أجمل من أن أختم هذه المقالة من خاتمة قارئ الفنون، فهد الشقيران، في مقال أثير عن هذا الفيلم تحديدا. يقول فهد عن موديغلياني إنه "أنين الراغب في الإفلات من قبضة التساؤل، إنه صدى الصمت... صوت الركض في دروب متشابكة.. باتجاه سراب طويل.. تحيط بالراكض ألوان المناجاة، وأقواس الليل السحّارة.. تخيفه آماد الرؤى الخاضة المتلوّنة الموحشة، كألوان سماء تزفّ شمسها إلى الغروب".