مما لا شك فيه أن العنف الجسدي مؤلم إلى حد كبير، وآثار كدماته وندباته الجسدية تظهر للعيان بشكل عام. وبالطبع تكون له كذلك آثار نفسية. وعلى عكس آثار العنف الجسدي التي ترى بالعين، فإن جروح وآثار العنف اللفظي والنفسي لا ترى، إلا أنها تستمر لتصبح أشد أذى وفتكا للطفل، ويرى علماء النفس أن آثار العنف اللفظي أشد وأكبر بكثير من الألم الذي يحدث بعد عنف جسدي مرت عليه سنون أو شهور.
ويعرف العنف اللفظي بأنه "الكلمات والألفاظ المسيئة التي تحمل عبارات السخرية والاستهزاء والسب والشتم من قبل الوالدين أو من قبل المحيط الخارجي والأفراد المحيطين بالشخص نفسه، ومنها كذلك الازدراء والتخويف والتهديد والتنابز بالألقاب واستخدام لغة سوقية وانتقاد الطفل باستمرار والتهديد بتركه ومقارنته بأطفال آخرين، ويضاف إلى كل ذلك تأثير التعبيرات التي تحمل رسائل جارحة أو ساخرة ومتهكمة أو فيها احتقار واستخفاف بالطفل".
إن الآثار السلبية للعنف اللفظي على الطفل كثيرة جدا، منها تدني مستوى الاعتداد بالذات وعدم الثقة بالنفس وتعطيل الطاقات الإبداعية والتأثير على نمو الطفل بشكل عام جسمانيا وعقليا ونفسيا واجتماعيا وأكاديميا وعاطفيا. أما على المدى البعيد فتزداد نسبة الإصابة بالاكتئاب والانطوائية والانعزالية أو تصعيد روح العدوانية والقلق واضطرابات النوم والأرق والوساوس والخوف، وزيادة نسبة الإصابة بأنواع الإدمان المختلفة، وإلحاق الأذى بالنفس وتبخيس الذات.
إن العنف اللفظي يؤدي إلى الخوف، لكن الضحايا قد ينكرون القلق والشعور بالرغبة في الهروب والابتعاد عن الشخص الذي يقوم بالاعتداء، وعندما يتلقى الضحية صورة من صور الاهتمام أو الحب من الشخص المعتدي، فإنه يعلم أن هذا الحب موقت وأنه سرعان ما سينقلب إلى حالات الاعتداء قريبا، ولذلك يعيش الضحية في حالة تأهب وترقب مستمرين، وبذلك فإن الضحايا لا يثقون في إبتسامة شخص يحبونه خوفا من حالة الاعتداء القادمة لا محالة، وهذه مأساة في حد ذاتها، ألا تثق ببسمة من تحب خوفا من اعتدائه القادم.
إن الدراسات التي تؤكد مدى التأثير السلبي المدمر للعنف اللفظي على الأطفال كثيرة ومتعددة، منها دراسة الأستاذة ناتالي ساكس أريكسون من جامعة فلوريدا، التي أكدت فيها أن الأشخاص الذين تعرضوا لأي نوع من أنواع السباب خلال طفولتهم يصابون بالاكتئاب بنحو ضعفي أولئك الذين لم يتعرضوا للسباب. وفي دراسات جامعة كاليجري، وجدوا أن العنف اللفظي يترك آثارا وأضرارا نفسية أكبر من الأضرار الناجمة عن العنف الجسدي.
غير أن الأبحاث الحديثة ذهبت أبعد من ذلك، فقد بينت أن العنف اللفظي يترك آثارا أكبر بكثير مما كان يعتقد سابقا، وذلك بفضل تطور الأجهزة الحديثة للتصوير الدماغي، فهو يؤدي إلى ضرر دائم في تركيب ونمو وتطور الدماغ البشري. فالعقل البشري يختلف عن جميع الحيوانات في أنه يتكون وينمو ويتطور بعد الولادة. إذ إنه عند الولادة يكون غير كامل التطور، مما يجعل الإنسان غير قادر حتى على المشي قبل 9 أشهر، وتكوين الوعي بالذات خلال أعوام، أما تكوين الشخصية والقدرات الإدراكية والمهارات، فإنها تأخذ عقودا للتطور، وهذا التطور والنمو وتشكيل العقل يختلف من شخص لآخر باختلاف البيئة والتربية، والتجارب التي يمر بها العقل أثناء الطفولة، وعندما تكون البيئة عدوانية وغير صحية يتأخر نمو الدماغ ويتعطل. فقد وجدت الدراسة أن العنف اللفظي والنفسي يؤديان إلى أضرار دائمة في طريقة تكوين الدماغ تبقى مدى الحياة كجروح وندوب في الدماغ، وهذا ما أكده الباحث مارتن تاتشر وزملاؤه في كلية الطب بجامعة هارفرد.
إن هذه الجروح والندوب الدائمة في الدماغ التي تعوق نمو الدماغ بطريقة سليمة يمكن مشاهدتها بالوسائل الحديثة للتصوير الدماغي، وهذا ما تم بحثه في دراسة مقارنة نشرته المجلة الأميركية للطب النفسي، إذ وجدت الدراسة أن دماغ أولئك الأفراد الذين عانوا من عنف لفظي يحتوي على نسبة أقل من المادة الرمادية التي يعتقد أن لها علاقة وطيدة بمستوى الذكاء والقدرة على التحليل والتفكير المعقد. بل في دراسة على أفراد أعمارهم تتراوح ما بين 18 و 25 سنة تعرضوا للعنف اللفظي، وجد تخلف في تطور الاتصال بين الفصين الأيمن والأيسر من الدماغ، وهي نفس المجموعة التي تعاني من نسبة أعلى من التوتر والاكتئاب والغضب والعداء والإدمان نتيجة العنف اللفظي في مرحلة مبكرة من أعمارهم.
وفي حالة اجتماع العنف اللفظي مع العنف النفسي مع العنف الجسدي، فإن التبعات السلبية على الطفل تكون مضاعفة وأشد ضررا بالطفل ومستقبله.
ولذلك فإننا نجد ديننا الإسلامي الحنيف الذي يوافق الفطرة يرفض العنف بكل أشكاله، اللفظي منه والجسدي، يدعو للرفق ويحذر من العنف والفحش، وفي محكم التنزيل: "ولا تنابزوا بالألقاب"، وقال صلى الله عليه وسلم مخاطبا زوجه "مهلا يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش" رواه البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم "إن الله رفيق يحب الرفق ويعطى على الرفق ما لا يعطى على العنف وما لا يعطى على ما سواه" رواه مسلم، وعن منع العنف ضد الأطفال قال صلى الله وعليه وسلم: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا" رواه أبو داود والترمذي،
وقدوتنا صلى الله عليه وسلم لم يكن سبابا ولا فحاشا ولا لعانا، وقد أخرج البخاري من حديث أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: "لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم- سبابًا ولا فحاشًا ولا لعانًا"، وهذا مع الرجل البالغ الرشيد، فما بالك مع طفل صغير بين يدي أبويه يعنف بالألفاظ ويلقب بالألقاب وهو لا يقوى على الرد أو الصد.
إن الطفل يحتاج إلى القبول والحب غير المشروطين ليشعر بالأمان، ويحتاج إلى التشجيع والاستقرار والاهتمام، وعلى بعض الآباء ألا يترددوا أو يخجلوا أو يخافوا من الاعتذار لأبنائهم في حالة فقدانهم أعصابهم وتلفظهم بما لا يليق من القول، فالأطفال يجب أن يتعلموا ثقافة الاعتذار من آبائهم، ولا بد للآباء في تقويمهم لسلوك أبنائهم أن ينتقدوا السلوك والعمل المشين لا الطفل نفسه أو إهانته، فالعقاب لا بد أن يكون من أجل تصحيح السلوك وليس لمعاقبة الطفل أو إهانته، ولا بد من مناقشة الطفل في السلوك وسبب العقاب، ولا بد من تقدير الطفل لو قام بعمل جيد ولو كان صغيرا.
إن أطفالنا وأبناءنا أمانة في أعناقنا، قال صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الرجل راع في أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيتها وهي مسؤولة عن رعيتها" متفق عليه، وقال: "ما من راع يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لها إلا حرم الله عليه رائحة الجنة" رواه مسلم. فاتقوا الله أيها الآباء في أبنائكم.