تحقيق المخطوطات هو نقل الصيرورة والطفرات التاريخية المدفونة في شذرات الأوراق، إلى فضاء ملموس يضج بالحياة المختزنة في باطنها، ومفاعيل التعالق مع اللحظة، والانفتاح المرئي بطريقة مقننة، ومسيجة بالتفسير العقلاني، بما فيه من مكامن ونسيج حياتي، مما يجعلها أكثر مقبولية وأعمق محايدة وطمأنينة عند خضوعها للمعقول التاريخي اليقيني. إن مقتضيات الضبط والرصد والتوثيق يقتضي عدم تجريدها من لحمتها الزمكانية، وعدم خضوعها للاعتبارات التأويلية الاجتهادية، وتبديد الفهم الثابت بما يكرس الاهتزاز المعتم ونتوءات الأحكام الذاتية، إن استرجاعنا لبعض سلاسل المخطوطات بصيغتها الراهنة تقودنا إلى ملمح التحقيق السطحي والنقولات عديمة الشأن، واستسهال المراجعات الإجرائية دون امتلاك السماكة المعرفية والمخزون الثقافي والحس التاريخي، والقدرة على التشخيص والحفر في النص المخبوء، مما يدخل المحقق في دوامة الهذر والتحذلق والاجترار والهامشية، وانقطاعات التجارب والتحولات في الحقب البشرية. فالمخطوطة تشكل جزءا هاما من التراث الذي أبدعته الحضارة العربية والإسلامية في شتى حقول المعرفة الإنسانية، من تاريخ وجغرافيا وأدب وفن وطب وكيمياء وفلك وسائر العلوم، ويتراوح عددها ما بين ثلاثة إلى خمسة ملايين مخطوطة موزعة في مكتبات العالم العربي ومكتبات العالم المختلفة في أوروبا وأميركا، وبعض دول آسيا، وظلت هذه المخطوطات مهملة ومنسية، ولم يحقق منها إلا النزر اليسير، وقد ساهم المستشرقون بحصة كبيرة في نشر بعض تلك المخطوطات "كما يقول الباحثان فهمي سعد وطلال مجذوب، ولكنهما يشكوان من اعتداء وإساءة بعض الناشرين والمؤرخين الطامعين بالكسب المادي دون تحقيقها بشكل علمي، فالمخطوطة كتاب لم يتم طبعه أي أنه ما زال بخط المؤلف أو الناسخ، أما المحقق فلن يكون كذلك إلا بشروط علمية صارمة، كدقة الملاحظة والخبرة ومعرفة رجال العصر وواقع الحياة التي كتب فيها المخطوط، مع الصبر والأناة وسعة الصدر والجَلَد وطول النفس، والقدرة على التدقيق والمقارنة والمقابلة والأمانة، فنص المخطوط أمانة بين يديه أوصلها القدر إليه، في غيبة من مؤلفه فلا يعدل أو يزيد أو ينقص من متنه، مع الدراية بفن التحقيق ومنهجيته من حيث تحري المخطوطة وجمعها وترتيب نسخها وتحقيق عمرها، وقد حدد الباحثان مراحل تحقيق المخطوطة بمجموعة من النقاط منها: التخريج والتصحيح وترجيح الروايات وإعداد الهوامش والفهارس الفنية ومسرد المراجع، ولذا نهيب بالجامعات ومراكز البحوث العلمية أن تسعى لتحقيق ونشر ما لديها من مخطوطات، وبالذات معهد المخطوطات العربية في جامعة الدول العربية في القاهرة.