محمد أبو ساق

عضو مجلس الشورى


زادت وتيرة نشوء الحروب في محيطنا الإقليمي والعالمي بصفة غير مسبوقة؛ في زمننا الحاضر. وأصبحت الحرب شغلا شاغلا ومؤثرا في مجتمعاتنا، وقد ساهمت الفضائيات وشبكة المعلومات بتغطيات مكثفة ومباشرة مما زاد في التحام الناس بشؤون هذه الحروب وما يدور خلالها من معارك واقتتال.

وكانت الحروب ولا تزال أهم المعطيات السياسية التي تفرض نفسها على المجتمعات، وحتى الذين لم تفرض عليهم الحرب بصفة مباشرة ليعيشوا تحت وطأتها ولهيب رصاصها وتفجيراتها ومخاطرها فإنهم يعيشون حوادثها وتفاعلاتها بصفة غير مباشرة. وكما أصبح شائعا أن الحرب ليست إلا استمرارا للسياسة بوسائل أخرى حسب تعريف المفكر البروسي كلاوزفيتز. فمن المعروف أن الحرب لا تنشأ من أجل الحرب، بل من أجل غايات يراها من يعلن الحرب أو يشنها. ورغم عدالة بعض الحروب وضرورتها أحيانا، فإن للحرب بصفة عامة سلبيات لا يمكن حصرها؛ لما في الحرب من أخطاء ودمار وتضحيات. وفي هذه السطور سوف نعرض معطيات تؤدي إلى حتمية خسارة الحرب.

ويعتبر شن الحرب من طرف معين أهم مقومات تحليل الحرب، حيث تنشأ الحرب أحيانا في مناخ سياسي غير مهيأ للحرب، ومن ذلك الحروب غير العادلة والقوى غير المتكافئة. ومع تلاحق الأزمات والحروب في وقتنا الراهن وبغض النظر عن عدالة الحرب، فإن الحرب في الواقع مثل المصباح الكهربائي لا يمكن تجربته قبل إشعاله. فالحرب إما أن تندلع، ويتحمل من يبدأها تبعات ذلك، وإما أن تدار الأزمة دون اللجوء لإعلان الحرب.

وأثناء نشوء الأزمات السياسية ينتقل البعض في مواقفهم من الاستمرار في مواجهة الأزمة مع الخصوم بالمداولات السياسية في مراحل متعددة ويلجؤون إلى مفاجأة خصومهم بشن الحرب لإملاء الشروط أو تحقيق أهداف أو مواقف معينة.

وكما أشرنا في مقالة سابقة عما يعرف بـ"ضباب السلم" فإن بعض الأطراف في مراحل معينة من الأزمة يصبحون تحت تأثير معطيات كثيرة منها ما يعتبر شؤونا محلية بما فيه من الفشل السياسي والاستخباري والمعلوماتي عموما؛ ومنها ما هو تأثير الحملات النفسية والإعلامية المغرضة. وفي ظل ضباب السلم تنشأ حالة من الفشل في إدارة الأزمة، والفشل في التنبؤ بتحولات الأحداث، وبالتالي خسارة الحرب القادمة لضعف استقراء المواقف السياسية لكل الأطراف ذات التأثير في بيئة الحرب. وتحت نفس التأثير قد يشن أحد الأطراف الحرب قبل أوانها وفي مستوى متواضع من الجاهزية الوطنية والحربية. وقد يخسر طرف آخر الحرب لعدم جاهزيته الدفاعية ماديا ومعنويا ومفاجأته بحجم هجوم الخصم.

وهنالك معطيات كثيرة لا بد أن تسبق إعلان الحرب أو المبادرة بشنها لضمان تحقيق النصر والخروج من الأزمة بأقل الخسائر. حسابات كثيرة وخيارات متعددة لا بد من طرحها على طاولة الحوار الاستراتيجي لدى صناع قرار الحرب لضمان اعتماد الخيار الأكثر قابلية لنجاح تنفيذه دفاعا أو هجوما حينما تصبح الحرب حتمية. وحتى لا تخدع البلاد وتملى عليها الحرب من طرف الخصم، وتصبح خسارة الحرب أمرا حتميا، فإن هنالك مؤشرات كثيرة لا بد من جعلها تحت مجهر التنبؤ والاستطلاع والتحليل -في الدوائر العليا والمتوسطة والميدانية سياسيا وعسكريا- وعرضها أولا بأول على صناع القرار. فأوقات الأزمات المحيطة، أو التحركات المفاجئة أو نحوها، تتطلب جهوداً مضاعفة لرفع الجاهزية الوطنية بمفهومها الأعم، وجاهزية القوات المسلحة عن مستواها الاعتيادي، استعداداً لمواجهة الخطر الوشيك. وهنا تبرز كفاءة الأنساق العليا على المستوى الوطني في مقدرتها على تحليل المعطيات العالمية والإقليمية والمحلية بكل ما فيها من مصادر معلومات واستخلاصها وإعدادها وتحويلها إلى توجيهات استراتيجية تعمم على جميع القيادات والمؤسسات الوطنية المعنية. فمن المعروف أن أجهزة عليا في كل دولة معنية ومتخصصة في متابعة مجريات الأحداث المحلية والإقليمية والدولية، وتبعا لذلك تصدر التوجيهات برفع الجاهزية إن لزم الأمر. فإذا كانت هنالك أي مؤشرات لبدء الحرب من طرف الخصوم، فإنها سوف تكون ظاهرة لذوي القدرة والمهارة من المحللين والمتابعين.

فالحرب في الغالب لا تنطلق شرارتها فجأة، وهي إلى حدٍ كبير مشابهة لحالات الطقس، حيث يتغير من فصل إلى آخر مرحلياً. وما الأمطار أو الحرُ الشديد أو البرد القارس إلا مؤشرات للتغيير؛ وكذلك لن يكون انتقال العدو المرتقب من حالة السلم إلى حالة الحرب أمراً ميسوراً. ومع الأخذ في الاعتبار مبدأ وأساليب المفاجأة في شن الحرب، فإنها تتطلب فعاليات دبلوماسية، وأعمالا للحشد، بما فيها من تحرك للقوات وإمدادات ومتطلبات تموينية وفنية. ويعتمد نجاح العدو في مفاجأته بشن الحرب على مهارة قياداته التي ترسم سياساته وخططه وعلى وحداته العسكرية ومدى جاهزيتها لمثل ذلك الحشد والتحركات. وأيضا، يعتمد نجاح العدو على تواضع الطرف الآخر في تقويم الأوضاع السياسية والحربية والتبؤ بمواقف الخصم واستقراء الأحداث، مع ضعف الاستخبارات في كشف تحركات الخصم ونواياه.

ومن المؤكد أن أي هجوم على أي اتجاه أو محور، لابد وأن تسبقه بعض الأنشطة، التي من الممكن للاستخبارات الوطنية والحربية اليقظة ووسائل الإنذار المبكر أن تكشفها أو تشك فيها. ولا بد لأي هجوم وشيك أن تسبقه مؤشرات سياسية من أبرزها قرار التعبئة العامة، وسحب الدبلوماسيين ومن في حكمهم، أو وضع بعض القيود على سفر الدبلوماسيين الأجانب والسائحين، أو تعديل مسارات الطيران المدني. وأصبح إخفاء ساعة إطلاق شرارة الحرب أحد أهم مهارات فنون الحرب. فبعض الأطراف لا يهمها أن تستخدم إجراءات أو وسائل مهما كانت كاذبة أو حتى غير أخلاقية وغير قانونية لغرض إخفاء ساعة الحرب. ومن المؤشرات العسكرية ازدياد عمليات الاستطلاع من جانب قوات العدو، وتكثيف إجراءات الخداع، وحشد قوات العدو، ونشر وتركيز أسلحة وأنظمة الدفاع الجوي في الجبهة أو إلى الأمام، وتحريك وحدات المدفعية إلى الأمام أو مجرد حشدها، والتحركات غير المعتادة للسفن والقطع الحربية.

ومن الطبيعي أن يقابل قيام الخصم بمثل تلك الإجراءات بمتابعة دقيقة وتحليل شامل؛ يفرق فيه بين ما هو عمل روتيني يتكرر، لمتطلبات التدريب والجاهزية؛ وما هو عمل استثنائي وغير عادي. لذلك، لابد أن يتحلى المخططون السياسيون والعسكريون بمعرفة أحوال العدو وشؤونه مع بعد النظر الذي يعينهم على التنبؤ بما يمكن أن تكون عليه الأحداث في المستقبل، وتلك مهارة استراتيجية تجعل البلاد في مأمن؛ وتمكن القوات لتكون في مسارها الصحيح الذي يحقق لها الفعالية في تنفيذ مهامها بكل يسر واحترافية.

وبمثل ما يكون التنبؤ بنشوء الحرب التقليدية عبر مؤشرات معينة، فإن هنالك حروبا وأزمات غير تقليدية يتم الإعداد لها وإحكامها والدفع بها في مستويات معينة وبأساليب متعددة. ولعل الإطار العام للتنبؤ بتحركات وفعاليات العدو في الحروب التقليدية يعتبر وسيلة مرنة لتجديد الاستراتيجيات الدفاعية للتنبؤ والإعداد لنشوء أزمات محلية وتحريك خصوم وأعداء بأساليب الحروب غير التقليدية.