قد يرى البعض أن التيارات الفلسفية بنزاعاتها المتسللة قسرا إلى أعماق النفس، لا تأتي إلينا وإنما هي هناك، عند الفلاسفة الغربيين، بعيدا، بعيدا، عن عالمنا ولن تأتي إلينا لا قدر الله. وعلى ذلك فلا يجب أن نتناول هذه الفلسفات لا بالدراسة ولا بالنقد؛ لأنها ليست منا في شيء!.

حين سئل ابن رشد، وهو يعاني من محنته الثالثة، إذ جاء له رجل وسأله: هل ما زلت تقرأ كتب القدماء؟ "يقصد الفلسفة اليونانية"، فأجابه ابن رشد: نعم أقرؤها، فما يتبع شريعتي قبلته وشكرتهم عليه، وما يختلف مع شريعتى رددته إليهم وعسرتهم عليه. وعليه فإنه يجب أن نكون على وعي وعلم ودراية بكل ما يطرأ على الساحة وعلى الثقافة العالمية من فكر؛ لأنه مما لا شك فيه سوف يتسرب إلى دواخلنا وفي خلايانا دون وعي أو علم ونحن نتعاطى تأثير هذه الأفكار كل يوم؛ لأننا نجهل كنهها ولا نعلم سلبها من إيجابها. فإذا ما نظرنا إلى ذلك التوق في تدمير التاريخ والحضارة في بغداد، وكيف دمرت آثاره ومكتباته! وكيف سعى البعض إلى تدمير الآثار في مصر من السطو على المتحف المصري إبان الثورة ومن تدمير وإحراق المجمع العلمي بالقاهرة بأيدي أبناء موطنه! وبه كم هائل من الوثائق والمخطوطات التاريخية لتاريخ العالم كافة، والعالم العربي بشكل خاص. فالكل لم يعد يقدر قيمة التاريخ، بالرغم من أن من تمرس في مثل هذه الأفعال لم يقرؤوا تلك الفلسفات الداعية إلى تحطيم التاريخ، وإنما هناك فكر فلسفي يتنثر في الهواء ويتسرب عبر الصورة في كل شيء، وإذا لم تعمل مؤسساتنا على أن نتدارسه ونتدارس علم التلقي وتقنياته، نناقشه ثم نبينه وأهدافه، وإلا تسرب إلى قلوبنا وعقولنا عبر جهازنا التنفسي والنتيجة ما رأيناه من تدمير للتاريخ المرتكز على فكرة تدمير الماضي عبر نظريات ما بعد الحداثة.

قد يقول قائل: ليس هناك من نظريات تطمح إلى نفي التاريخ وتدميره! بينما نجده في صلب النظريات العولمية "الما بعد حداثية"، مع أن العولمة كمصطلح تختلف تماما مع العالمية؛ لأنني قرأت في حوار مع بعض رجال الرموز الفكرية أن الإسلام عالمي فلا بأس من العولمة، فالعولمة فكر فلسفي له مقاصده وله بنوده، أما العالمية فهي الأفق الواسع للإنسانية، وهذا خطأ يقع فيه معظم الناس بالرغم من مناصبهم وثقافتهم وعلمهم، لكن الفرق كبير، وبذلك نحن نقع في براثن الفكر العولمي المدمر لنا ولثقافتنا وتاريخنا، ولا يتضح لنا ذلك إلا بدراسة تلك الفلسفات "الما بعد حداثية" وآراء رواد هذا التيار؛ كي نفهمها ونحصن ثقافتنا وتاريخنا.

فـ "ما بعد الحداثة وفي صلب فلسفتها أنها تنفي الماضي تماما ولا تكتبة ولا تتكئ عليه؛ لأنهم يعدّون الماضي نوعا من الهرطقة، وكتابة التاريخ ما هي الا محاولات اعتباطية كما قال جنكس!، وينسحب ذلك على النصوص الأدبية والفنون والتاريخ والنقد والعلم أيضا؛ لأنها تعتمد على السرد، والسرد لا يستقيم لديهم. وعليه، فماذا عن كتابة التاريخ في هذا الفكر الجديد؟

ترى هذه الفلسفة أن اللغة هي حقل الصراع بين خطابات متعددة فيما بعد الحداثة. وأن كلا منها يسعى إلى فرض منظوره وأنسقته دون سند من حقيقة مسبقة، فلا تصبح عملية كتابة التاريخ خاضعة لهذا الصراع؛ لأنه سيغدو أثرا من آثار الكتابة عنه، ومن رؤى أصحاب هذا التيار أنهم:

1- يشككون في كل النماذج التاريخية بحجة تجاوز الماضي.

2- رفض كل الماضي.

3- تسعى عن وعي إلى إعادة طرح صور من الماضي باعتباره كيانا مبهما على عكس الحداثيين الذين يرونه كيانا خارجيا يمكن قراءته وتفسيره ومن ثم تجاوزه.

4- لا يمكن التعرف على التاريخ يقينا، ولا يمكن أن يعاد بناؤه المرة تلو الأخرى من خلال الجدل المستمر بين الكثير من الصور المعاصرة باعتباره فكرة مجردة.

ففي ظل هذه النظرة تنهار الحدود الفاصلة بين التاريخ، والنظرية، والنقد، والسرد القصصي ويصبح لكل منها كيان يخلق موضوعه بنفسه، فيصبح أي خطاب أو نظرية في موضع التهديد.

وقد أسمى "ليوتار" ذلك بالحلم "الأنثربولوجي" حينما قال: "ويكمن وراء هذا المنطق ما يمكن أن نسميه بالحلم الأنثربولوجي - أي حلم الإنسان بوجود وطن مثالي تحيا فيه الأشياء والأعمال الفنية، وبهذا تستحيل أي عملية رصد تاريخي لنمو أسلوب ما بعد الحداثة باعتباره تفسيرا لكيفية استعادة الماضي في بعض الأعمال". ويرى الناقد الإيطالي امبرتو إكو في هذا الصدد أن:

1- الحركة الطليعية ـ أي ما بعد الحداثة ـ تسعى إلى طمس الماضي.

2- يعيد توظيف عناصر مألوفة بطريقة ساخرة "متفقا مع جنكس" أحد منظري الحداثة.

3- تدمير الماضي ما هي إلا نظرة ساخرة؛ لأن هذا التدمير يعني الصمت التام لكل الأصوات.

وذلك لأن ما بعد الحداثيين ـ ومنهم تولدت العولمة ـ يرون أن كتابة التاريخ مجرد أعمال اعتباطية فيقول "جاك دريدا": "إن الصلة بين الدال والمدلول تحددها العلاقات الاعتباطية التي تشكل النظام اللغوي".

وبما أن التاريخ يعتمد على مسرود وسارد، والسارد ليس له مكان في منهجهم! لأنه أي السادر يعتمد على اللغة. فتقول "نك كاي" صاحبة كتاب التفسير والأيدلوجيا والتفكيك: "اعتبر جاك دريدا الكلام لغة مستقلة بذاتها وأن اعتماد المعنى عن طريق اللغة لا يلعب أي دور في إنتاج المعنى؛ لأن اللغة نظام مستقل بذاته وذلك لأن سوسير قد ذهب إلى أبعد من ذلك، كونه جعل اللغة سابقة للتفكير وشرطا لوجوده وبالتالي لوجود أي معرفة". وما بعد الحداثيين يهدمون آراء سوسير وغيره وأي قواعد ونظريات مسبقة، وبالتالي، فلا صحة لسرد أو كتابة التاريخ؛ لأنه يعتمد على اللغة، واللغة من وجهت نظرهم نسبية؛ لأنها متعددة القراءات. وبذلك نجد أن هناك فصيلا من مثقفينا وأبنائنا أصبحوا لا يهتمون بالماضي ويمقتونه، فمن أين تسرب إلى عقولهم هذا الفكر، ونحن المخطئون؛ لأننا لا نطرح هذا الفكر ونتدارسه ونسلط الضوء عليه لنحمي أمجادنا وماضينا وتاريخنا. فتناولاتنا تمضي بـ"العكس"، بالرغم من أن ما يحدث في وطننا العربي ماهو إلا انعكاس لنظرية لم يفهمها أبناء العامة من الناس. فكل ما يهمنا في طرح هذه الآراء هو تسليط الضوء على فلسفة العولمة، التي من أهم خصائصها هدم التاريخ وتقويض الماضي، وربما لأنهم لم يتذوقوا طعم الماضي وأمجاد التاريخ.