هذا الفيلم Precious أوالثمينة 2009 من الأفلام المؤلمة جدا والملهمة جدا.. ليس لأنه مليء بالرعب المفتعل، ولا لأنه قصة حرب كبرى، بل لأنه باختصار وببساطة فيلم عن مأساة إنسانية واقعية جدا. اقترب هذا الفيلم من الواقع بشكل مذهل. الفيلم مأخوذ من رواية "Push" للروائية الأميركية "Sapphire" 1996. تقع أحداث الفيلم في حي هارلم الشهير في نيويورك، الحي الذي يعدّ معقل الفقراء السود في أميركا، وهو الحي الذي خرج منه الكثير من نجوم السينما والرياضة والفن، عدد أذهلني فعلا حين حاولت التعرف أكثر على رجال ونساء هارلم. لكن من جهة أخرى هارلم كان وما يزال معقلا للكثير من العصابات وتجّار المخدرات وكثير من القصص المأساوية. باختصار هارلم حكاية وتاريخ طويل في مدينة نيويورك اجتمع فيه الفن مع الفقر، الإبداع من الواقع أو الإبداع الذي لا يحتاج لمفارقة الواقع؛ كي يثبت أنه فن حقيقي.

هذا الفيلم هو إحدى قصص المأساة في هارلم. وكما قال أحد الحكماء، إن أكبر مأساة هي ألا تشعر بالمأساة، أي حين تكون المأساة هي الواقع الطبيعي الذي يفقد الناس الأمل في تغييره أو الإحساس بضغطه عليهم، وأنه حمل ثقيل تجب إزاحته بأي طريقة. مع "بريشس" أو الثمينة بطلة الفيلم أصبحت المأساة هي الوضع الطبيعي. وهنا تأتي خطورة السنين الأولى من حياة الإنسان.. السنين التي تشكّل روحه وعقله ونظرته لنفسه وللآخرين. حين يتعرض الطفل للمأساة في سنينه الأولى، فإن هذه المأساة تصبح جزءا منه. تصبح جزءا من تركيبته التي لا يكون هو إلا بها. الكثير من الأطفال الذين ينشؤون في بيئات المآسي يكملون حياة المأساة حتى النهاية، القلة هم من يجدون مخرجا من هذا الطريق الأسود. مخرجا يخرجون منه بحثا عن الشفاء، عن الأمل، عن حياة جديدة. "بريشس" وجدت هذا المخرج أخيرا. ولكن الحكاية ليست "بريشس" فقط بل هي عن تركيبة المأساة التي يشترك في نسج خيوطها عدد كبير من الناس يمثلون المجتمع والمؤسسات، يمثلون الواقع الذي نعيشه كل يوم. الفيلم يحتوي على عدد من الشخصيات المهمة جدا لعل من أهمها شخصية الأم التي استطاعت الفنانة الكبيرة Mo'Nique أن تلعبها بقدرة مذهلة، استطاعت أن تقدم شخصية في غاية التعقيد والتركيب، استطاع المخرج أن يقدمها في عدد من المشاهد الحادة والمركزة مستندا على التحليل الروائي العميق في القصة الأساسية.

الفيلم يحظى بمتابعة جماهيرية كبيرة هنا في أميركا، كما يحظى برصد نقدي عالي المستوى، الفيلم جمع بقدرة احترافية عالية مشاهدة جماهيرية مع عمق في الفكرة وأداء درامي عالي المستوى والمضمون، ولامس بجرأة ومباشرة ودون أي التفافات إحدى الزوايا المؤلمة من حياة مجموعة من البشر، مهما اختلفت ظروفنا عنهم إلا أننا نبقى نشترك معهم في عوامل عدة تجعل من هذا الفيلم مبكيا وموقدا للرحمة فينا.

حكاية الفيلم تكمن في اسم البطلة، اسمها الثمينة، ولكنها على مدار سنينها الأولى لم تجد لهذه الجملة أي مدلول على أرض الواقع. فهي طفلة لا تعرف والدها، وتعيش مع أمها التي تعاملها بشكل مؤذ، وكأنها مجرد وسيلة تستعملها لمجرد الحصول على الإعانة الاجتماعية. حتى على مستوى المظهر الخارجي تبدو الثمينة غامقة البشرة، تعاني من سمنة عالية، مما جعلها محلا للسخرية، وربما الاحتقار من الأطفال في المدرسة. إكمالا للتناقض بين الاسم والواقع لاحقت الثمينة سمعة سيئة في المدرسة، فهي بحسب الكثير من المعلمات والمعلمين مستعصية على التعليم، ولن تجدي أي محاولة لمساعدتها.

تقول السيدة فيروز في أغنيتنا الشهيرة "أسامينا": "أسامينا شو تعبو أهالينا تلاقوها شو افتكروا فينا الأسامي كلام شو خص الكلام عينينا هني أسامينا". ماذا كان في عيني الثمينة ليجعلها ثمينة فعلا؟ هنا تدور الأحداث لتعيدنا إلى المأساة الإنسانية المتمثلة في أن العلاقات التي نعيش فيها من علاقات إنسانية واجتماعية واقتصادية وتاريخيا هي شرط وجودنا ولا يمكن الخروج من هذا الوجود إلى وجود آخر إلا بتغيير هذه الشروط والصراع معها. هنا تكمن حكاية الثمينة مع اسمها ومع الشروط التي وجدت نفسها فيها ولم تخترها. هنا تكمن حكاية الثمينة بين عينيها اللتين تقولان لها إنها ثمينة وثمينة جدا، وبين الواقع الذي لا يرى أي شيء ثمين في هذه الإنسانة.

الحكاية تقول لنا إن ثمنيّة الذات لن تتحقق إلا داخل جماعة وسياق، فالإنسان لا يعيش معزولا عن الآخرين. على هذا الخط تبدأ رحلة الأمل مع بدايات بسيطة لأناس استطاعوا أن يروا ثمنيّة الثمينة، واستطاعوا أن يقدموا لها ما يعينها على التمسّك بالنور الذي يشعّ في عينيها، وبالاسم الذي ما يزال علامة على الأمل تتكرر مع كل تواصل مع الآخرين. كان لفظ الثمينة متحققا على الورق الرسمي وعلى ألسن الناس، ولكنه لم يصبح حقيقيا إلا حين تحوّل إلى سلوك ومشاعر. لم يصبح حقيقيا إلا حين تحوّل إلى رؤية للثمينة على أنها إنسان كامل الإنسانية. هذا يعني رؤية هذا الإنسان على أنه عالم مفتوح من الإمكان والأمل. هذا يعني أيضا رؤية هذا الكائن على أنه لا يمكن حصره في تعريف محدد أو أفق واحد، أو مستقبل يقرره الماضي بالكامل. حصلت الثمينة على من يرى في عينيها إمكانا مفتوحا ومستقبلا هائلا، حصلت على من لا يرى فيها حكاية منتهية، بل من يرى فيها حكاية في أطوارها الأولى. لم يكن هؤلاء بحاجة إلا للنظر في عيني الثمينة وتمييز ذلك النور الذي يجعل لحياتهم معنى. لم أعجب من بكاء المخرج عند حديثه عن الفيلم، فهو لم يعد فيلما بل حقيقة.