"لا يمكنني العمل الآن، ولا يمكنني حمل أطفالي ولا حتى الإمساك بقلم للكتابة" كانت هذه هي الكلمات التي افتتحت جان شويرمان بها الخطاب الذي ألقته على الحضور في "بيتسبيرج" الذين أتوا للاحتفال بالإنجاز العلمي الهائل الشهر الماضي بكونها أول مريض شلل رباعي استطاع تحريك يد روبوتية بأفكاره وعقله. أكملت جان عشر سنوات منذ إصابتها بالشلل الرباعي، لم تستطع خلالها إطعام نفسها، وها هي الآن تقف شاهدا على قدرة العقل وقوته وتقف شاهدا أيضا على أن العقل مهما كان قويا فهو لا يستطيع تحريك أطراف مشلولة تماما ما لم يتم مساندتها وتمكينها بالتأهيل والتقنية. الأكيد أن جان قضت العديد من أيامها ولياليها تتخيل تحريك أطرافها المشلولة فقط لتصحو وتجدها في مكانها بلا استجابة وبلا حراك، وكذلك نظامنا الصحي الذي لم يصحُ حتى الآن من خيالاته ليكتشف أن أطرافه مشلولة بإصابة مركزية.
شلل جان الرباعي يرادفه شلل أكثر من 15 منطقة صحية في المملكة تم تضعيفها وإهمالها لتتحول مديرياتها الصحية لمكاتب إصدار أوامر إركاب للمرضى لرحلاتهم للمناطق المركزية، للعقل. هذا العقل المركزي الذي يتباهى بإنجازاته الحالمة لم توقظه سجالات المديريات والمرضى في المناطق الطرفية على صفحات الصحف ووسائل الإعلام حول شكاوى إصدار أوامر الإركاب والتذاكر حتى أصبح الأخير جزءا لا يتجزأ، إن لم يكن الأساس، في قائمة مهام المديريات الصحية الطرفية، بل وتجاوزه بأن تتباهى وزارة الصحة بسرعة إصدار التذاكر وتتابع أداء المديريات في ذلك!
تختنق المناطق الصحية المركزية بالمرضى وذويهم، وغالبهم لأمراض مزمنة يمكن متابعتها بشكل فعال في مناطقهم الصحية متى ما تم تمكينها لتتحرك بنفسها عوضا عن شلها بمركزية وبيروقراطية لا يدفع ثمنها إلا المرضى في تلك المناطق وأطباؤها وطواقمها الصحية المكبلة أيديهم.
تجاوزنا الزمن ونحن ما زلنا في دائرة النقاش الحجري عن شح الموارد الصحية البشرية وهو المخرج الأسهل لرمي سوء الخدمات الصحية على عاتق التخطيط التنموي المتخبط منذ الأزل، في تجاهل مريب من قبل مجلس الخدمات الصحية لجميع نظم الإدارة الصحية الحديثة والتي تعتمد بشكل كبير على التقنية والاتصالات حتى في أفقر دول أفريقيا. تجاوزنا الزمن ونحن ما زلنا نعيش نمطية إدارية عفا عليها الزمان، غالبا ما تقتضي حضور المريض لعيادة الطبيب في المناطق المركزية عوضا عن إرسال طواقم التخصصات النادرة بشكل دوري للمناطق الطرفية وتتم متابعة الحالات المستقرة منها عن بعد وبشكل إلكتروني. تجاوزنا الزمن ونحن ما زلنا نحاول إيجاد بروتوكولات للإخلاء الطبي الذي ضاع في دوامة الأطراف المشلولة فقط ليصبح الموت هو المعيار الأدق لفرز الحالات هناك.
تتعرض المناطق الصحية غير المركزية لانتقادات لاذعة مستمرة من العقل المركزي المنفصل ومن المجتمع ووسائل الإعلام وهو الظلم بعينه، فقد تشرفت بمقابلة العديد من الطواقم الصحية هناك وقياداتها التي تقوم بجهود جبارة مقارنة بمواردهم المحدودة وصلاحياتهم الضئيلة بل أكاد أجزم أن لهم القدرة على المنافسة والتفوق على طواقم مناطق الرياض والشرقية وجدة الصحية. هذا التميز الطرفي لا يقف هنا بل يتجاوزه لثروات إدارية صحية تم دفنها تحت أكوام من البيروقراطية، ومع ذلك فهذا لم يثنها عن محاولة تحسين مستوى الخدمات في مستشفياتها وعياداتها ومراكزها الصحية النائية لتسقط أسماؤهم "سهوا" مع كل إنجاز لهم يتم تسجيله لوكيل هنا أو نائب هناك.
كما أن للشلل الرباعي درجات فكذلك شلل الأنظمة الصحية المركزية ولا يمكن معرفة درجة الضعف الوظيفي لأطراف نظامنا الصحي إلا بفحوصات وتجارب إدارية صحية عديدة ومختلفة مصممة وملائمة خصيصا لكل منطقة صحية طرفية واحتياجاتها، فإن استجابت وتفاعلت وتحسنت فهذا دليل على أن كل ما كنا بحاجة إليه هو إيقاظ مجلس الخدمات الصحية من نومه العميق، وإن لم تستجب فحينها نحن بحاجة لأياد روبوتية عديدة لعلها تساعد في استعادة جزء من وظائف النظام الصحي الطرفي التالف.