وبعيدا عن لغة العاطفة فيما شرحت بالأمس، عن علاقة الهجر بيني وبين هذه المدينة التي دامت لثلاث سنين، سيكون من صور الواقع ما يمكنني اليوم أن أقول بثقة إن الزائر البعيد، مكانا أو زمنا يستطيع أن يلمس التحول والتغيير على أديم المدينة أكثر بكثير من الساكن المقيم. إنها مقاربات ومقارنات المخزون من الصور في الذاكرة مع الصورة المختلفة التي أشاهدها اليوم بعد ثلاث سنين.

أولى الصور الهاربة من ذاكرتي عن جدة هي الجديد الذي أحدثته مشاريع الأنفاق والكباري على تقاطعات شوارعها المزدحمة. كانت جدة لدي مجرد (إشارة مرور حمراء) وكانت شوارعها في ذاكرتي أطول مواقف متحركة ببطء لآلاف السيارات المختنقة. والحق أن على أهلها الانتظار والصبر لعامين قادمين حتى تكتمل اللوحات على عشرات هذه المشاريع ولحظتها قد نستطيع الحديث عن مدينة بشوارع حقيقية مع الشرط المستقبلي الجديد: أن يكون لمدينة الملايين الخمسة خارطة عصرية لوسائط النقل العام ولا أعلم لماذا يقولون إن الانتهاء من مسارات شبكة نقل عامة قد يستغرق سبع سنين. دخلت جدة منتصف المساء، وكنت سعيدا أن أشاهد مئات الرافعات الصفراء في موقع واحد قرب الجامعة. في اليوم الثاني كنت بصحبة الصديق الأثير، حمود أبو طالب، نمر أيضا على المئات الأخرى من هذه الرافعات العملاقة فوق الإنشاءات في مواقع مختلفة من المدينة حتى انتهينا قرب هيكل المطار الجديد والاستاد الرياضي الدولي الذي شاهدته تحفة تليق بشبابنا بعد ثلاثين سنة من الركود وأكثر من أربعين عاما من آخر مقعد رياضي أو بوابة سفر. وحتى في آخر المساء، وأنت تمر على مواقع عشرات المشاريع المختلفة ستتخيل أن المدينة الهائلة مجرد ورشة بلا سكان وكل هذه الصور المبهجة تدخل ذاكرة لم تعرف في هذه المدينة من قبل صورة رافعة صفراء واحدة. تغيرت في ذاكرتي هذه النظافة النسبية للمدينة وأيضا هذا الاختفاء النسبي الملحوظ لصهاريج الصرف الصحي التي كانت من قبل، وفي ذاكرتي، لزمة تستدل بها على ساعات الليل الأخيرة في هذه المدينة، شاهدت الكورنيش الحديث الذي غبت عنه لسنين فوجدت تحفة استثنائية لا ينقصها إلا أن نفرض رسما بسيطا على كل قادم إلى هذا المتنزه الخلاب من أجل صيانته كي يبقى على هذه الصورة الفريدة. مشيت على الأقدام في النهاية الغربية لممشى شارع فلسطين في حلته الجديدة وهو يكفي وحده للفارق الهائل في ثلاث سنين عن مستقبل مدينة.