احتفلت المملكة العربية السعودية ودول العالم يوم السبت (23 مارس) بـ"ساعة الأرض" وهي مناسبة قامت فيها أكثر من (150) دولة حول العالم بأنشطة رمزية (مثل إطفاء الأنوار) تُساهم في حماية البيئة والمحافظة على الموارد الطبيعية. وهي مناسبة للتفكير في التحديات البيئية، تمهيدا لـ"يوم الأرض العالمي" الذي يصادف 22 أبريل، وتقوم فيه الأجهزة الحكومية والأهلية بفعاليات متنوعة تسلط الأضواء على تلك التحديات وطرق مواجهتها.
والتحدي البيئي الأول في المملكة هو مواجهة هدر الطاقة، وما يشكله من أضرار صحية وبشرية واقتصادية، وهو بالنسبة لها ليس ترفا بل تحدٍّ وجودي، بيئيا واقتصاديا، يتعلق بمصير هذه البلاد ومستقبلها.
فالمملكة كما نعرف أكبر مصدر للنفط. ولكنها أيضا أكبر مستهلك له، قياسا على عدد سكانها. إذ تستهلك ما يعادل نحو أربعة ملايين برميل من النفط يوميا، أو مليار ونصف مليار برميل سنويا، وهو ما يترجم إلى (48) برميلا للفرد سنويا. ويعادل ذلك خسمة أضعاف المعدل الأميركي (أقل من عشرة براميل، ونحو عشرة أضعاف المعدل الياباني).
وفي حين أن معدلات الاستهلاك في الدول الصناعية في انخفاض مستمر بسبب الترشيد وتطوير مصادر بديلة للطاقة، فإن معدل الاستهلاك في المملكة في ارتفاع متسارع.
وهدر البترول على هذا النحو يحرمنا من موارد ضخمة يمكن أن توجه إلى التنمية ورفاهية المواطن، فعلى افتراض أن السعر العالمي لبرميل النفط يتجاوز مئة دولار (لمزيج برنت)، فإن القيمة الحقيقية للاستهلاك المحلي تبلغ نحو (150) مليار دولار، وهو ما يعادل (69) بالمئة من حجم ميزانية الدولة لعام 2013. وبعبارة أخرى، فإن ما يُستهلك من البترول محليا يمكن تصديره وبيعه بالأسعار العالمية، وإنفاق هذا العائد على مشاريع تنموية في المملكة فوق ما هو مرصود في الميزانية.
وهذا الوضع مُقلق، ولكنه يجب ألا يدفع إلى اليأس؛ لأن بإمكاننا تغييره. فمعظم دول العالم قد تمكنت من ترشيد استهلاكها وتطوير مصادر متجددة من الطاقة على مدى العقود الأربعة الماضية، منذ 1973، وهو العام الذي ارتفعت فيه الأسعار بشكل ملحوظ ودفع العالم إلى النظر بجدية نحو البترول كونه سلعة نادرة وناضبة.
ولكن الدول المنتجة للنفط لم تمر بتلك التجربة ولم تستشعر الحاجة إلى الترشيد أو تطوير مصادر جديدة، مما ساعد على اتباع أساليب للإنتاج والاستهلاك أضرّت بالبيئة والاقتصاد، إلى أن وصلنا اليوم إلى وضع يهدد بمستقبل كارثي ما لم نواجه هذا التحدي.
والمصدران الرئيسيان لإهدار النفط هما: المساكن والمواصلات، مما يتطلب التركيز على تعديل أنماط الاستهلاك فيهما.
فقطاع الإسكان يستهلك (80) بالمئة من الكهرباء في المملكة، يُستخدم (70) بالمئة منها في التكييف وحده. ويعود ارتفاع الاستهلاك لعاملين، أولهما انخفاض معايير كفاءة استخدام الطاقة في أجهزة ونظم التكييف. والثاني ضعف أو انعدام العزل الحراري في المباني؛ لأن معايير العزل المعتمدة ـ مع ضعفها ـ غير ملزمة ولا تتم متابعة تنفيذها.
المصدر الثاني للهدر يكمن في المواصلات، ويعود لسببين أيضا: عدم وجود معايير عالية لكفاءة استخدام الطاقة في السيارات، وانخفاض سعر البنزين. فهناك نحو عشرة ملايين سيارة في المملكة، يزيد عددها بنسبة خمسة بالمئة سنويا. ومع هذا النمو وعدم وجود قيود على كفاءة استخدام الطاقة في السيارات، فإن الاستهلاك في تزايد مستمر، إذ تشجع أسعار البنزين المنخفضة على استيراد السيارات التي تُسرف في استخدام الوقود.
ويتزايد استخدام السيارات الخاصة في طرق المملكة على الرغم من خطورتها، إذ تساهم في مقتل أكثر من سبعة آلاف شخص سنويا، وإصابة نحو (68) ألفا، كما أشرتُ في مقال الأسبوع الماضي.
وبالإضافة إلى انخفاض أسعار البنزين، يعود تفضيل السيارات الخاصة إلى عدم كفاية وسائط النقل العام الموجودة (والمخطط لها). فمع أن الطيران وسيلة مواصلات سريعة ومرغوبة، إلا أنه مكلف ولا يتوفر بشكل عملي إلا بين المدن الرئيسية. أما بالنسبة للقطارات فإنها حتى تكون بديلا عمليا، يجب أن تكون سريعة ومريحة تنافس الطائرات والسيارات الخاصة، وهذا هو التوجه العالمي حاليا، خاصة في أوروبا وآسيا، إذ يجري استبدال نظم القطارات القديمة بنظم سريعة ومريحة تستطيع المنافسة مع شركات الطيران السيارات الخاصة.
ويتضح تأثير السعر في إنتاج الكهرباء أيضا، فسبب التكلفة المنخفضة للديزل الذي تحصل عليه محطات الكهرباء، ليس لديها حافز لتطويرها لترشيد استخدام الطاقة، ويمكن بجهد محدود مضاعفة كفاءة تلك المحطات وتوفير نحو نصف ما تستهلكه من الديزل، كما أخبرني الخبراء الذين يعملون في تلك المحطات.
ويتطلب تحدي إهدار الثروة النفطية الذي يهدد مستقبل اقتصادنا جهدا مشتركا لأجهزة الدولة والقطاع الخاص والمواطنين. ففي خطوة مهمة، صدر قرار مجلس الوزراء في أكتوبر 2010 بتأسيس المركز السعودي لكفاءة الطاقة، لتطوير الأدوات اللازمة لمواجهة هذا التحدي. ومن ضمن ما قام به المركز حتى الآن تطوير برامج لتحسين كفاءة استخدام الطاقة في المباني الجديدة، ويسعى لتطبيقها في المساكن القائمة أيضا.
وفي فبراير 2013، وقّع المركز اتفاقيات مع عدد من المؤسسات الحكومية والخاصة تهدف إلى تخفيض استهلاك الطاقة في المباني. ولعل المركز ينطلق بسرعة لمواجهة الجوانب الأخرى من كفاءة الطاقة، فالأمر مُلحّ، والخسائر من هدر الطاقة متزايدة، ولكن المكاسب من ترشيدها كبيرة ويمكن أن يلمسها المواطن.
ولعل المركز يسعى إلى إقناع المواطنين ومطوري العقار وأصحاب الأعمال بأن تلك المكاسب ستكون حقيقية وملموسة لهم؛ لأن تلك القناعة ستدفعهم للالتزام بما يتم إقراره.
وتمثل الجهود التي تقوم بها وزارة البترول خاصة، تحت إشراف صاحب السمو الملكي الأمير عبدالعزيز بن سلمان، مساعد وزير البترول، أهم الجهود القائمة حاليا لجمع شتات هذا الموضوع واقتراح السياسات والوسائل اللازمة لتحسين كفاءة الطاقة.