ما يحدث في عالمنا العربي من فوضى ممنهجة، دموية وفكرية، وتدمير للتراث، يتطلب منا الوقوف في وجهه قبل أن يأكل الأخضر واليابس ويصل بنا إلى العدم، وتأتي أجيال من أصلابنا تعتقد أن العرب كان وجودهم في هذه المنطقة خطأ تاريخيا، وأن أجدادهم وآباءهم لم يصلوا لمرحلة الإنسانية وبقوا قريبين من البهائمية والهمجية، وأن الدين الإسلامي دين ذبح للرقاب ونحر للفكر وحوريات للزواج!
منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر وعالمنا العربي يعاني من الويلات المكثفة، فالغرب المستعمر اللاهث وراء خيرات منطقتنا، بعد أن زرع الكيان الصهيوني في أرضنا، ظن أنه سيقوم بمهمة التدمير الوجودي للإنسان العربي كفكر وثقافة لكي يكون وجود الصهيوني أمرا حتميا وطبيعيا! فلقد كان وما زال وجود الصهيوني مرهونا بعدم تكرار ظاهرة الزعماء الذين أجلهم واتفق عليهم غالبية العرب، ولكي لا يتكرر هذا الزمن المضيء عمل المستحيل وبدأ بالاستفراد بالدول العربية كل على حدة، فهل نعتقد حقا بأن الصهيونية العالمية ستقف موقف المتفرج والإسلام ينتشر بوتيرة سريعة حول العالم رغم كل محاولاتهم السابقة لإسكات صوته؟! هل ستتراجع عن مخططاتها وتترك العرب يتفقون كأمة واحدة تحرر أراضيها، وتعمل على حقوق ونماء ورقي بلدانها؟!
لقد درس الغرب تاريخنا العربي والإسلامي ودرس نقاط ضعفنا وأقام معاهد ومراكز أبحاث استراتيجية شغلها الشاغل كيف تسيطر على سكان وسط العالم (العرب والمسلمين)، الذين يملكون خيرات الأرض وممراتها الحيوية، ودرس كيف يبقيهم مفككين جهلاء مستهلكين غير منتجين، لكي يتمكن من تصنيع المواد الأولية التي ينهبها منهم ثم يبيعها لهم، وكيف يتلاعب بمفاهيم الإسلام ويدمره من الداخل، وكيف يجعل أبناء هذه الأرض يقتلون بعضهم البعض ويمحون من ذاكرتهم مفهوم التعايش الذي اعتادوا عليه، وزرع وحش التشدد فكريا والعنصرية بداخل الأمة الواحدة! هذا لا يعني ولله الحمد أن الأمة بكاملها متلقية ومتقبلة لما يحاك لها، ولكن من المعروف أن القوي يفرض على الضعيف ما يريد، وأن الحق يحتاج لقوة للدفاع عنه، وهذه المعرفة بنا ودراستنا ليست بجديدة، فزمن الاستعمار القديم المباشر سبق إليه المستشرقون الذين مهدوا للاستعمار المباشر.
ومن هنا تبدأ قصة ما نعانيه من تطرف ديني سيوصلنا إلى هدم الإنسانية وتراثها، فمنذ زمن جُهلنا وسُرق تاريخنا وحضارتنا وثقافتنا الإنسانية، ومن ثم تمت إعادة تصديرها لنا بمفاهيم جديدة، وبالتالي نسب الغرب لنفسه الرقي ونسب إلينا الجهل والتخلف! زُرعت في أرضنا أفكار متطرفة تبناها البعض وحافظ عليها، وحين الحاجة إلى التخريب والهدم، يتم إيقاظها وبثها إن كان من الخارج أو الداخل! ولم يُكتف بذلك بل زُرعت العنصرية والتحيز لفئة ضد أخرى! إن القاعدة الشعبية لأمتنا لطالما كانت متعايشة متوائمة رغم الاختلاف في العقيدة والمذاهب، فالمنطقة العربية كانت الوعاء الذي تختلط فيه كل الأعراق والإثنيات والأديان والمذاهب والأفكار فتذوب ببعضها، أنتجت ما طاب من حضارة وثقافة إنسانية ووزعتها على العالم، وإن حدث وظهرت فئة متطرفة كان يتم لفظها من المجتمع ولا تجد بيئة حاضنة، كظاهرة الخوارج والحشاشين، والتاريخ شاهد أن منطقتنا صدرت البناء والغرب صدر الدمار والنهب والعنصرية للعالم مثل الفاشية، النازية، الصهيونية، والرأسمالية المتوحشة!
لا نستطيع أن نقول عن متطرفي هذا الزمان بأنهم فئة، فهم ظاهرة واسعة الانتشار، ولهم منابر وشاشات ومناصب وتمويل من أفراد ودول! وللتمويه أطلق الجزارون على أنفسهم لقب "عالم وشيخ ومفت"، ووزعوا فتاوى التفرقة والكراهية، بل والقتل في كل اتجاه، وأصبح لهم أتباع ومحبون ومريدون استغلوهم شر استغلال وأضلوهم معتمدين على صغر سن أو جهل أو قلة علم التابعين لهم، فيحقنونهم من خلال إثارة الغرائز، ويبنون سدا منيعا من الصلب حول عقولهم، فقتلوا وذبحوا ونحروا ودمروا وسرقوا باسم الدين! ولم يكتفوا بذلك، بل نجد منهم من يقوم على سرقات ممنهجة للآثار أو تحطيمها!
يجب أن تتضافر الجهود لصد هذا المرض الخبيث وخنقه لكي لا تقوم له قائمة، هذا المرض الذي يفتك بالأوطان والإنسان، يجب الإصرار على استرجاع المفاهيم الصحيحة للإسلام وتعرية المتسلقين عليه، ولن يكون بمهاجمتهم عشوائيا دون دلائل من الإسلام نفسه، ولن يكون بتحقير أو الاستهزاء بمشايخهم، ولكن بالحوار والتركيز على موطن التحريف في ما يحملون من أفكار، لأن الملعوب بعقله يطيع شيخه طاعة عمياء ويعتقد أنه دليله للحق المطلق، ولن ينفع معه إلا تعرية شيخه، بالحق دون افتراء، وتصغيره في عينه، وتمزيق الهالة التي يحيط نفسه بها من التقوى الكاذبة وحب الله المزيف، فطالب الشهرة أو المال أو المركز على حساب الناس نقاط ضعفه لا تحصى.
الغرب المتصهين يتلاعب بالمصطلحات والمفاهيم ويرميها علينا، ويحاول تهشيم رموزنا بالتدليس واللعب على المشاعر وإثارة الغرائز وزرع الفتن، فلندرس هذه الحالة ونتصدى لها بالحق، ونعمل على تحصين أمتنا، فلا نهدأ ولا نستكين، وهذا لا يعني أن تبقى الأمة بكاملها مستنفرة ولكن يعني: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولـئك هم المفلحون} آل عمران104.. هذه الفئة التي تكون مجهزة في علوم الدين، وعلوم الأديان المقارن، واعية مثقفة فكريا ومعلوماتيا، تستوعب جدل الداخل وجدل الخارج، قادرة على مقارعته بالحجة والدليل والمنطق، تُعد خطط وأساليب الاتقاء من الأخطار وتحصن المجتمع بالمعرفة والتنمية الفكرية، توصلها عبر خطب المساجد ومناهج المدارس والجامعات والندوات والوسائل الإعلامية للنهوض بمجتمعنا إنسانيا، فلنتعلم من التاريخ ونستشرف المستقبل، فهذا قدرنا أن نبقى حاضري الذهن سائرين على طريق الخير بنائين.. قدر الإنسان حامل الأمانة.