أشرت في مقالي السابق إلى وجود عدد كبير من المثقفين الإيرانيين الشيعة الذين ينتقدون كثيرا من المسلمات الدينية الشيعية. وسبب ذلك أن الشيعة في إيران يمثلون "أغلبية" وهو ما يمسح بذلك النقد الجذري.
ولا يتسع المجال لعرضٍ مستقصٍ للنقد الحيوي الذي تحفل به الساحة الدينية الإيرانية. ويكفي إيراد بعض المقتطفات مما كتبه الدكتور عبد الكريم سروش، أحد أبرز المفكرين الإيرانيين المعاصرين، ويصفه بعض الباحثين الغربيين بـ"لوثر الإسلام"، في كتابيه: "الصراطات المستقيمة"، ترجمة أحمد القبانجي، منشورات الجمل، 2009 م، و"بسط التجربة النبوية"، ترجمة أحمد القبانجي، منشورات الجمل، 2009م.
ووردت تلك المقتطفات في سياقات فكرية وفلسفية محددة، لكنها بصياغاتها تلك تكشف المنهج النقدي الحاسم لهذا المثقف البارز. وسأكتفي بإيرادها عن التعليق عليها (مع التحفظ على لغة الترجمة!).
(من "الصراطات المستقيمة"):
ص 33: "وينبغي النظر من هذه الزاوية إلى ظاهرة تعدد الفرق والمذاهب في الإسلام، فعندما يقال إن وجود هذه المذاهب المتعددة كان بسبب مؤامرة الأعداء، أو يقال إن الحوادث الكبيرة العظيمة كانت بسبب المؤامرة فإن ذلك يدل على السطحية في التفكير".
ص 40-41: "فهنا لو نتساءل: قلنا إن الشيعة هم المهتدون فقط من بين جميع الطوائف والأقوام المتدينة . . . ، واعتبرنا هذا المذهب (أي الشيعة) وهم الأقلون، قد نالوا الهداية الإلهية، وسائر الناس سلكوا طريق الضلال والكفر "في نظر الشيعة". "وكيف يمكن أن نصدق أن نبي الإسلام بمجرد أن وضع رأسه على وسادة الوفاة فإن العصاة والغاصبين نجحوا في سرقة دينه من الناس وحرموا عامة المسلمين من فيض الهداية الإلهية وأهدروا بذلك جميع أتعاب النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)؟ وعلى فرض أن بعض الأشخاص المعدودين كانوا يتحركون بدوافع حب الجاه والمقام ويواجهون الحق من موقع الخصومة فكيف أصبح الملايين من المسلمين (إلى نهاية التاريخ) بحالة لا تقبل معها طاعتهم ولا يثابون على أتعابهم ويقبعون بانتظار سوء العاقبة؟ ألا يعني هذا الاعتراف بفشل الخطة الإلهية وعدم نجاح النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) في مهمته؟".
ص 44: "ليس التشيع هو الإسلام الخالص والحق المحض ولا التسنن (رغم أن أتباع هذين المذهبين يرى كل منهما الحق بجانبه)".
ص 46: "أليس من العجيب أن فقهاء الشيعة ومن أجل إثبات الولاية المطلقة للفقيه وإثبات هذا الأمر المهم والعظيم للحكومة الدينية يتمسكون برواية "عمر بن حنظلة" الذي يشك في وثاقته كثير من علماء الرجال؟!".
ص 53: "إن رجال الدين في كل مذهب بصورة عامة هم خدمة ذلك المذهب ويتحركون على مستوى درس وتدريس تعاليم ذلك المذهب الذي ولدوا فيه وعاشوا في أجوائه ويسمون هذا علم الدين. هؤلاء في الواقع مقلِّدون".
ص67: إن "التشيع الموجود الذي هو عبارة عن مجموعة آراء ومعتقدات الشيعة لا يمثل الحق الخالص، لأن علماء الشيعة بأنفسهم مختلفون في الرأي كثيرا، وهناك انعكاسات في هذا المذهب للتيار الإخباري والمعتزلي والأشعري والفرق المغالية والتصوف والقول بتحريف القرآن وأمثال ذلك، مضافا إلى أن فهم علماء الشيعة كالشيخ الطوسي والعلامة المجلسي والفيض الكاشاني وآية الله الخميني والعلامة الطباطبائي عن أصول ومعتقدات المذهب الشيعي متفاوت بدرجة كبيرة، وهكذا الحال في مذهب أهل السنة الذي يتسم بهذه السمات أيضا وبالتالي فهو محكوم بهذا الحكم كذلك، فلا يوجد تشيع خالص أو تسنن خالص".
ص 68: "وعلى فرض أن أحد الأشخاص لا يرى المذهب الشيعي حقا، فغاية ما ينتج أنه يكون من أهل السنة، فهل التسنن كفر؟ وهل تأييد آراء وعقائد أهل السنة يعتبر من الكفر؟".
ص 68: "إن الشيخ المطهري (رحمه الله) كان يقول بصراحة: "إنني أعلن هنا بصراحة أننا بغض النظر عن أربع مسائل في الفروع وفي العبادات وبعض المسائل في المعاملات، فإننا لا نمتلك فكرا سليما عن الدين، أو يقول إن توحيدنا، ونبوتنا، وولايتنا للأئمة كلها قد أصابها المسخ".
ص70: "إن هذا يعني ضرورة اتخاذ منهج آخر في عملية التحكيم بين ذواتنا وبين الآخر المخالف بحيث نعتبر بتواضع أن ذلك الآخر لو لم يكن مهتديا فلا أقل من كونه معذورا ومأجورا، وبالطبع فهذا الكلام موجه إلى أرباب العقول والأفهام، وأما أصحاب الأفق الضيق فإنهم يعيشون بعيدا عن هذه الأجواء ويرون أنفسهم مهتدين وحدهم ولكنهم لا يعلمون لماذا صاروا من أهل الحق وسائر الناس والفرق الأخرى على باطل؟".
ص 74: "عندما ننظر من خلال هذه النافذة إلى العالم نجده عالم الكثرات، ومقتضى العلل الطبيعية والأذهان البشرية هو أن الشعوب والدول والأديان والأفهام متنوعة ومتكثرة، وكل حركة وسعي من أجل القضاء على هذه الكثرة تفضي إلى كثرة أخرى، فالطريق إلى إقامة الوحدة بين الفرق والمذاهب الإسلامية التي يكثر الحديث عنها هذه الأيام لا يكون معقولا إلا بالاعتراف بوجود هذه الكثرة على أساس أنها كثرة طبيعيا وواقعا. كما هي الأشجار في حديقة واحدة، لا أن نعتقد أن الآخر يسير في خط الانحراف والباطل وأنه من أهل النار، أو عندما نذكر علماء وكبار الطرف المقابل فلا نترحم عليهم. وفي نفس الوقت نقرر لزوم إيجاد مصالحة بين المذاهب ظاهرا بدافع المصالح المشتركة ورفع أشكال العداوة في ظاهر الأمر، فمثل هذا الصلح لا يدوم. وما لم يقم على أسس ومبان نظرية سليمة فإن الحالة تبقى معرضة للاهتزار دائما. ولهذا نرى كثرة الحروب والنزاعات بين السنة والشيعة، وكثرة السجالات اللفظية في مدوناتهم وكتبهم".
ص 75: "فالوحدة بين الشيعة والسنة لابد أن تصدر من موقع قبول الكثرة والاعتراف بالآخر كما هو الحال في الكثرة بين الأقوام والشعوب واللغات والألوان، فالتشيع والتسنن كل منهما يمثل جوابا واستجابة لدعوة نبي الإسلام ومن ملازمات الامتداد التاريخي للإسلام، لا أن كل واحد منهما يمثل مؤامرة على الإسلام".
ص 126: "يوجد 900 مليون مسلم سني وقد اعتنقوا المذهب السني باختيارهم، فهل إنهم عرفوا الحق ولكنهم لم يذعنوا له طواعية؟ هذا كلام مجانب للصواب والإنصاف".
(بسط التجربة النبوية):
ص 84: "ومن هذا القبيل انتخاب أبي بكر وعمر وعثمان للخلافة، وهكذا انتخاب الإمام علي للخلافة، وعدم استلام سائر أئمة أهل البيت لزمام السلطة وغيبة الإمام الثاني عشر وكون الأئمة اثني عشر وما إلى ذلك، فهذه كلها من الأمور العرضية للدين، ولهذا السبب ينبغي النظر إليها على أساس كونها وقائع تاريخية لا أكثر". "وبذلك فإن جميع أجزاء الإسلام التاريخية عرضية دون أجزاء الإسلام العقدية. والإيمان يتعلق بالإسلام العقئدي لا الإسلام التاريخي".
ص 206: "وما نراه من موقف الشيعة في عدم تكفير المخالفين والمنكرين للأئمة من أتباع سائر الفرق الإسلامية يشير إلى مدلول مهم، وهو أن كلام وتجربة هؤلاء الأولياء ليست بمستوى ومرتبة كلام النبي ولا تمثل جزءا من الأجزاء القطعية للإيمان، وإلا لكان إنكارهم في عرض إنكار النبي من خلال ما يتصف به المنكر من حالة الارتداد والإلحاد". "وقد جاء الكثير من الغلاة في تاريخ الإسلام وذهبوا إلى آراء تتصل بالارتفاع بمرتبة هؤلاء الأئمة إلى مرتبة النبوة".
ص 238: "والشيعة يرون أن فرقة أهل السنة والجماعة وليدة أسباب سياسية، ومن جهة أخرى فإن أهل السنة يعتقدون أيضا بأن المذهب الشيعي وليد مثل هذه الأسباب والعلل. ألا ينبغي أن تفتح هذه الأمور بصائرنا على أن سيادة مذهب معين أو فكرة أرثوذوكسية خاصة في أجواء المجتمع لا تتصل بصدق هذه العقيدة والفكرة وحقانيتها بل تخفي وراءها أسبابا وعللا أخرى؟". وكما هو المتوقع فقد قوبلت آراء الدكتور سروش بالاعتراض عليها والطعن فيها لأنها تفتح أبوابا جديدة للتفكير والفهم.