تذكرت فجأة أن موسم الربيع الجاري يكمل لي سنة ثالثة متصلة منذ زيارتي الأخيرة لهذه المدينة. ومثلما قال الراحل الكبير نجيب محفوظ في (بين القصرين) إن علاقة الأفراد بالمدن لا تختلف عن علاقة العاشقين المضطربة. تارة تصل حد الجنون، وفجأة تصل حد الجنون المناقض في الجفاء والعتب. لاحظوا أنني لم أستعمل مطلقاً لفظتي البغض والكراهية.
والحال الواصف لقصتي مع هذه المدينة، لقاء أو هجراً، أنني السبب رغم أن بها كل بذور السبب نفسه. أحببتها بجنون وعشقتها ذات أزمان ببصيرة عمياء وبصر يغمض شبكة العين حتى وهي تلفظني وتصفعني كل زيارة مثلما تلفظ الأنهار الجارفة على ضفافها أعواد النخيل هادئة ومهترئة. أحسست قبل ثلاث سنين أن هذه المدينة لا تبادلني حتى زكاة الحب وأنا الذي أعطيتها كل رأس مال العشق والعاطفة. والحال أننا نتقاسم معاً بذور السبب. أنا القروي الشارد البسيط الذي يحاول أن يكون مدنياً ثم تكتشف فيه مثل هذه المدينة كل هذه الغلظة والخشونة، كل هذا الخوف والوجل. وعلى النقيض أنا مع مثل هذه المدينة الصاخبة مثل الحيوان الأضعف في غابة مكتظة لا تهجم فيها الكواسر إلا حين ترى في فريستها عيونا خائفة وساقين نحيلين لا تقوى على المجاراة والمبارزة.
تفترسه حتى قبل أن يفكر بالهروب لأنها تعطل فيه غريزة حب البقاء. فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.
أعطتني هذه المدينة من قبل أغلى ما يمكن أن تعطيه أي مدينة أخرى على الخارطة. وبين قوسين مفتوحين على مصراعين: أعطتني أجمل ما لديها وهي أنها الأقل من بين كل مدننا في (العنف البصري) فيما لا تشعر أنك مثل جثة عارية على قارعة الطريق تأكلك الأبصار وكأنك داخل غرفة لكشف الرنين المغناطيسي. وعلى النقيض أحببت المدينة الصغيرة الأخرى واخترت الحياة فيها رغم الشعور الدائم أن فوقي (رادار) يرصد للخلق حركاتي في كل شوارعها الجبلية القصيرة الضيقة.
ثلاث سنوات من غيابي عن هذه المدينة ودخلتها قبل البارحة منتصف المساء تماماً مثلما يعود لأحضان زوجته المطلقة ثم يعطيها ورقة الفتوى ببطلان الطلاق دون أن يدري أنها تزوجت غيره من بعده.
ثلاث سنوات من الغياب، وفيها يقول الإحصاء إن اثني عشر مليون سعودي قد مروا عليها من بعدي في العام الواحد: أي أن كل سعودي قد جاء إليها في غيابي مرتين، فهل أنا آخر سعودي يدخل هذه المدينة. غدا نكمل.